الدكتور علي القاسمي قامة سامقة في الأدب والثقافة وعلم اللغة ناقد بصير عميق النظرة وروائي مبدع متعدد المواهب، فإذا جئت إلى عالم الأدب وجدت له القدح المعلى فيه من خلال أعماله القصصية والروائية ودراساته الأدبية، وإذا جئت إلى عالم اللغة وجدت له قدماً راسخة في علم اللغة والدراسات اللغوية قديماً وحديثاً وله فيها قصب السبق من خلال كتابه القيم (علم اللغة وصناعة المعجم)، و(المعجمية العربية بين النظرية والتطبيق)، و(المعجم العربي الأساسي)، ويتوجها عمل رائد يتمثَّل في كتابه (معجم الاستشهادات الكبير والأوسط والصغير) وهو معجم يضع بين يدي دارسي الأدب ومحبيه مادة ثرة من النصوص الشعرية والنثرية والشواهد من القرآن والحديث النبوي حول موضوعات وألفاظ ومعاني تدور في ساحة الأدب والثقافة العربية استقرأها وجمع شملها، وأبدع نظمها وقدمها لعشاق الأدب حيث يجدون بغيتهم في كتاباتهم فيما يريدون التعبير عنه وفي عالم الأدب تحتل رواياته مدى واسعاً وشهرة ذائعة تلقفها المتلقون بكل لهفة وشوق، بل عكف بعض الباحثين والدراسين على دراستها والإشادة بها، ولا يتسع مجال هذه المقدمة للحديث الموسع عن الدراسات حول رواياته التي تجاوزت أحد عشر كتاباً ودراسة، وأذكر منها على سبيل المثال دراسة الدكتور إدريس الكربوي حول روايته (مرافئ الحب السبعة) بعنوان (السرد في الرواية العربية . رواية علي القاسمي مرافئ الحب السبعة نموذجاً)، وقد أهداني أخي العزيز الدكتور علي نسخة منها حين لقيته في المغرب وقرأت الرواية فوجدتها رواية تستحق الإشادة مضموناً وأسلوباً وتنم عمَّا يتمتع به كاتبها من ثقافة أدبية واستحضار للشواهد الشعرية المناسبة لسياقها ومقامها، ومن خلال مجالستي له في داره العامرة بالرباط وجدته يمضي سحابة يومه في القراءة والبحث والكتابة، ودرج على أن يحمل معه جهازه الحاسوبي في المقهى الذي اعتاد الذهاب إليه ويصحبني معه وهناك يباشر عمله في الكتابة على جهازه، وقد آن لي أن ألوي عنان القلم للحديث عن واحد من إبداعات القاسمي يتجلى في كتابه (مفاهيم العقل العربي) تناول فيه مفاهيم عديدة مثل مفهوم الحياة، والحرية، والعلم، والوطن، والجوار، والتكبر، والتواضع، والصداقة، والمرأة، والحب، والجمال، والمال، والكرم (الشيخ محمد حمد الشبيلي مثالاً)، والغربة، والبكاء، والشيخوخة، والموت . وحول هذه المفاهيم نراه يلم بما يدور حولها من نصوص شعرية ونثرية،درج على ذلك عند كل مفهوم، ولا يكتفي بذكر الشواهد بل يمهد لها بما يوحي بفحواها بأسلوب أدبي، وفي اختياره للشواهد ذوق حاضر، واستقصاء وافر، وفهم بيّن ظاهر، واستحضار الشواهد والنصوص أشاد به النقاد والأدباء قديماً كما ذكر الجاحظ في البيان والتبيين (1/86) والآبي في نثر الدر (1/436) قولهم (يكفي من الآداب أن تروي الشاهد والمثل) وإلى جانب هذه العناية بالشواهد نجده يلم بأطراف ما يتعلق بكل عنوان وقد استوقفني أيضاً إلمامه فيما يتعلق بمفهوم الحياة حيث ذكر تحت هذا العنوان (حرية الحياة، الحياة زائلة، الحياة قصيرة، ثنائية الحياة والموت، صفو الحياة أم كدرها، الخلوب في الحياة، كما استوقفني إعجاباً حديثه المفيد حول المفهوم، وهو تمهيد لا بد منه يلقي الضوء على مضمون الكتاب، ويفصح عنه، وأدلى في هذا السياق بدلوه حول فلسفة المفهوم، ومن المفيد هنا أن أشير إلى أن تراثنا الأدبي ثرّ بالشواهد حول ما يتعلق بالقيم والأخلاق ومن ذلك ما نجده في كتاب عيون الأخبار لأبي قتيبة، ونثر الدر للآبي، ومحاضرات الراغب الأصفهاني، وبهجة المجالس وشحن الذهن الهاجس لابن عبد البر، ولباب الآداب للأمير أسامة بن منقذ، وأدب الدنيا والدين للمارودي، وكتاب الآداب لأبي الفضل شمس الخلافة جعفر بن محمد، وجاءت مادة بعض هذه المصادر على ما درج عليه القدماء في مؤلفاتهم التي تجمع أمشاجاً من النصوص الأدبية شعراً ونثراً على غير نسق معين، وقد أفاد القاسمي منها في بعض مواده غير أنه انفرد بنهجه وأسلوبه في العرض على نحوٍ فيه جِدة وحضور للمؤلف وفي الجانب الشخصي عرفت القاسمي عن كثب، وجالسته، وتجاذبت معه أطراف الحديث حول موضوعات وقضايا شتى فوجدته يأنس بالحديث عن القضايا العلمية والأدبية، وعن الأدباء والمثقفين ممن له علاقة وثيقة بهم وما أكثر من يعرفهم ويعرفونه منهم في الوطن العربي وخارجه، وله جاذبية عندما ينتقل بك إلى حديث الذكريات يأسرك بحديثه ويجبرك على الإصغاء إليه لأنه يصدر عنه بصيغة شبه درامية وبأسلوب جذاب ويصدق على جل يسه قول الشاعر:
وتراه يصغي للحديث بقلبه
وبسمعه ولعله أدرى به
وهنا إذا طفلت الشمس للمغيب نراه يناجيها قائلاً لها على رسلك سميرك الليلة علي القاسمي، وإذا بزغ القمر تناجيه الشمس قائلة ألا تشاركنا الاستمتاع بمسامرات القاسمي.
ولا بد من الإشارة إلى أن كتاب مفاهيم الثقافة صدر عن النادي الأدبي الثقافي في مدينة حائل في طبعته الأولى الجديدة عام 1439 – 2018 في (318) صفحة، وقدم له رئيس النادي الدكتور نايف المهيلب الشمري وجاء منها قوله (كلما قلبت ناظريك على شاطئ هذا المنجز الثقافي ألفيته حدائق ونخيلاً باسقة تستحق الوقوف والاغتراف من كل لون وطيف .. إنه بلا شك كنز من كنوز المعرفة ص6) .
وكان الكتاب نفسه قد صدر في طبعته الأولى عن دار الثقافة في الدار البيضاء تحت عنوان آخر هو (مفاهيم العقل العربي) ويقع في (308) صفحة من الحجم المتوسط، ومن خلال المقارنة بين الطبعتين يتبين أن طبعة نادي حائل احتوت على ستة عشر مفهوماً بينما جاءت الطبعة الأولى محتوية على أربعة عشر مفهوماً بزيادة مفهومين في طبعة حائل وهما : الأول مفهوم الحرية ص35، والثاني مفهوم التكبر والتواضع ص119 .
** **
أ . د . عبد لله عبد الرحيم عسيلان - رئيس نادي المدينة المنورة الأدبي