علّمتني الحياة خطتين في سياستي مع الناس.. خطةً أتبعها في ما يصيبني من الناس، وخطةً أتبعها في ما يصيب الناس مني، فاسترحت كثيرًا من تبديد شعوري في غير طائل، وعرفت كيف يكون الاقتصاد في إنفاق ثروة الحياة.
أما خطتي فيما يصيبني من الناس، فهي أن أتناول طباعهم وأخلاقهم جملةً واحدةً، ولا أفرق بينهم على حسب اختلاف الأشخاص والأفراد.
كان الخلق الواحد في مبدأ الأمر يسبب لي الألم وخيبة الرجاء عشرات المرات، بل مئات المرات.. وكنت في كل مرة أشعر بصدمة المفاجأة كأنني أكتشف شيئًا جديدًا لم أتوقعه من قبل.
ثم تعودت مع الزمن أن أجعل للناس جميعًا حسابًا واحدًا في رصيد المكسب والخسارة، فهبطت الخسارة كثيرًا على الأقل.. وهذا في ذاته مكسب معدود.
تعودت أن أجمع الأخلاق في أنواعها، وأن أضع كل نوع منها تحت عنوانه، في الناس أنانية، في الناس صغار، في الناس سخافة، في الناس نقائص وغرائب.. وهكذا، وهكذا إلى آخر هذه المألوفات التي توارثناها نحن - أبناء آدم وحواء- فليس في هذا من جديد.
فإذا أصابني من الناس شيء مكدر رجعت به إلى عنوانه، فوجدته مسجلًا هناك ولم يفاجئني بما لا أنتظر، في الناس أنانية.. في الناس صغار.. نعم.. نعم. وماذا في ذلك؟ ألم تعلم هذا من قبل؟ بلى، علمته مرةً بعد مرة؛ فما وجه الاستغراب، ولماذا الألم والشكوى؟
وراقبت نفسي طويلًا فوضعت نفسي في القائمة، وتعودت أن أقول لها كلما أصابها ما يكدرها: «وأنت أيضًا كذلك»، فلا محل للحساب والعتاب.
أما خطتي في ما يصيب الناس مني، فهي أن أسأل نفسي كلما شعرت بسخطهم وانتقادهم: «هل الأمر يعنيني؟» وبعبارة أخرى: «هل يضيرني أن أفقد رضاهم؟ وهل يعيبني أن أفقده؟».
فإذا كان في الأمر ما يضير أو ما يعيب فالأمر يعنيني، ولا بد من معالجته بما أستطيع؛ وإلا فلا وجه للتعب والاكتراث.
وعولت دائمًا على المقياس العملي؛ لأن الجري وراء النظريات لا ينتهي إلى غاية؛ فكنت أضع أمامي على الدوام خمسةً أو ستةً من الذين أعرفهم، وأعرف أنهم من أصحاب الحظوة عند الناس، وأن الناس لا يسخطون عليهم ولا ينتقدونهم فأتساءل: «هل يسرك أن تكون مثلهم، وأن تحصل على الرضا كما حصلوا عليه؟»
وكان جواب هذا التساؤل نافعًا لي على الدوام؛ لأنه يحدّد لي العمل اللازم، أو يعفيني من كل عمل، ويبيّن لي في معظم الأحوال أن ثروة الرضا والثناء عملة زائفة، أو عملة صحيحة على أحسن الوجوه، ولكن الاستغناء عنها غير عسير.
ومن التجارب الكثيرة في الأشخاص الذين عرفتهم حق المعرفة، تبيّن لي أنهم يحتالون، ويتعبون عقولهم وضمائرهم في الاحتيال طلبًا للشهرة التي لا تهمهم لذاتها، ولكنها تهمهم لغاية يصلون إليها من ورائها.
وحمدت الله؛ لأن تلك الغاية لا تهمني أنا، ولا تستحق عندي أن أبذل فيها أقل تعب حتى لو استطعته كل لحظة.
وكنت كمن يتمنى نصيبًا من المال؛ ليشتري به شيئًا، ثم علم أن الشيء لا يستحق الشراء، فاستغنى عن المال واستغنى عن تمنيه.
خطتان سهلتان: خطة مع الناس وهي أن أجمعهم جملةً واحدةً. وخطة مع نفسي وهي أن تقصر جهودها وهمومها على ما يعنيها، والخطتان سهلتان كما قلت، ولكنني لا أنسى أن أقول إنهما سهلتان على من هو مثلي، مطبوع على العزلة وقلة الاختلاط بالناس.
وحب العزلة عادة لم أتعلمها من الحياة، بل أخذتها من أبوي الاثنين بغير تعليم.
فمن استطاع أن يتعلمهما فليتعلمهما.. إن كانت تعنيه!