د. حمزة السالم
ثقافة شعوبنا العربية تائهة بين تاريخ مجدها وبين إنكار واقعها، الذي ساقها للتخبط بين حروب أيدولوجية عالمية. فهي تراوح أسيرة في غفلة التبعية للثقافة السائدة التي تعمي البصر وتقلب المنطق وتخدر الفكر. فقد ضاعت استقلالية عقول الشعوب العربية في حرب الثقافات بين الغرب والشرق.
فنظرية السوق الرأسمالية -التي تحاربها الشعوب العربية- ثقافيًا وإعلاميًا وتعليميًا، تنص على أن السوق الإنسانية تعكس اختلاف مواهب الناس وقدراتهم، مع الاعتراف والتعامل مع فطرة الإنسان المجبولة على حب الخير لنفسه وعلى الظلم.
فالسوق تحتوي على صاحب الثروة، وعلى المستثمر والمستهلك المسرف والمستهلك المقتصد. فمهمة النظام البنكي في السوق الرأسمالية هي: توجيه ثروات المدخرين لأفضل الاستثمارات الممكنة في المجتمع. وهذه المهمة لا تتحقق، إلا بأن يتحمل البنك مخاطرة إفلاس المقترض. ولذا كانت البنوك أول المتورطين في أزمة الرهن العقاري في أمريكا، وليس الملاك. ولهذا ترى في حساب الشخص هناك، مئات الألوف ولا يستطيع البنك التعدي عليها باحتجاز دولار واحد بسبب قروض في بطاقات ائتمانية لم تُسدد. ولهذا لا يُسجن عندهم أحدهم في دين، ولا يتعدى بنك على ملكية أحد في دين إلا في الرهن العقاري، أو فيما أُعطي الدين عليه. وهذا لحكمة واسعة ليس هذا محل تفصيلها، ولكنها تدور حول فكرة القيام على التعامل بين البشر بحقيقة الفطرة الإنسانية التي لا تمنعه عن الظلم إلا لخوف أو عجز.
وعلى النقيض، فإنك ترى السجون العربية وقد امتلأت بالمفلسين، لأن عمل البنوك العربية لا يتعدى عمل الدلال الذي يوصل بين الدائن والمدين ويأخذ عمولته، فلا يهمها ماذا سيُصرف الدين فيه.
فالدين التمويلي خير كله، إذا كان محكوما بنظام شامل قائم على سنة الله في خلقه للبشر وللسوق. نظام يحمي الغني والفقير بما يحقق أفضل الاستغلال لموارد المجتمع. والنظام التمويلي الحديث مكن الطبقة الوسطى من الاستمتاع بالإنفاق الاستهلاكي الترفيهي كما مكنهم في نفس الوقت من التملك والتوفير الاستثماري. بينما يستحيل في السوق العربية الجمع بين الإنفاق والاستثمار، كما يصعب على الكثير التملك والتوفير حتى يملك رأس المال اللازم للاستثمار في ظل التضخم، فهو أبد الدهر أجير كادح.
فالأمريكي والعربي كلاهما ينفق راتبه، بل غالب الناس في جميع المجتمعات تفعل هذا ولكن أحدهما يستمتع بشبابه ويمتع أطفاله وينفق وهو في نفس الوقت يستثمر ثم يموت غنيا، والآخر يعيش كفافا ويموت فقيرا. (والحديث على الأغلب الأعم).
فالأمريكي لا يبقى من راتبه شيء، لأنه يذهب أقساطا في سداد ديون استثمارات متنوعة. فقسط لسداد ثمن البيت، وقسط للسيارة وقسط لصندوق التوفير، وقسط للبرامج الترفيهية والتبرعية. والعربي لا يبقى من راتبه شيء كذلك، فقسط لإيجار المنزل وأقساط أخرى للاستهلاك.
فالأمريكي يشيخ وقد عظمت ملكيته واستثماراته، فهو ينتقل من منزل إلى منزل أكبر، وتراه يتمتع بالإجازات والترفيه، ويمتلك أصولا مالية قد تضخمت عبر السنين بما استثمره من الدين الذي استدانه ليساهم به في صندوق التوفير. فهو ضمان مالي له في شيخوخته يغنيه عن أولاده وعن الناس، أو على الأقل يترك خيرا لورثته.
أما الفرد العربي، فتراه يشيخ ولم يملك منزلا واحدا بل قضى عمره مستأجرا في نفس مستوى منزله الأول مراوحا في سباق تضخم الإيجارات. وتراه وقد شاخت به السنون وقد تقاصرت قدرته الشرائية فلا يستطيع الحياة إلا بالكفاف. ولوجده لا يملك ثروة في صندوق التوفير الاستثماري، تضمن لشيخوخته ترفعا، عن فضل ومنة الغير، ثم يموت مُتحسرا أنه لم يترك خيرا لورثته.