د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** ليس مهمًا أن تكون واعيًا بما يدور حولك، مطلعًا على شؤون غيرك ، محصِيًا حركاتهم وسكناتهم، رافعًا صوتك بمثالبهم ومعايبهم، معتمرًا أرديةَ التميز، مستغرقًا في مسافات التنظير ؛ فأهمُّ منه أن تعيَ ذاتك بدءًا وتُحاكمَها منتهى.
** تتمحور كثيرٌ من إشكالاتنا الثقافية حول مقدرتنا على قراءة متغيرات العالَم حولنا وتشخيص أخطاء أفراده ومجتمعاته وأنظمته ظانين أن من تُوصله أناهُ حدًا يبيح له نقد الآخَر فإنه -حيث يدري أو لا يدري- سيوهم نفسه بخلوِّه من سلبيات سواه وكأنه في موقعٍ خارجيٍ مطلٍ من شرفة العالم بما يأذن له بخلط أوراق الحكايات المروية والمرئية وفق أهوائه وربما هواياته.
** وقد عاب دارسو زمن الصحوة كثرةَ المفتين والواعظين فيه وتعددَ برامج الإفتاء والتوجيه خلاله حتى باتت مخرجاتُها الأكثر تناولًا وتداولًا وتجاوزت - في تقدير بعضهم - فتاوى الأزمنة السالفة مجتمعة، وربما صدَّق هذه الفرضيةَ انحسارٌ كميٌ وتراجعٌ نوعي في المساحات المتاحة لها ولهم مقارنةً بسالف أيامها وأيامهم؛ فماذا عن فتاوى هذه الحقبة التي صار فيها «الجميع» خبراءَ في السياسة والاقتصاد والإدارة والتنمية وعلم الاجتماع وعلوم الطاقة والتقنية واللغة، وبات ما تستقبله الشاشات الفردية والجمعية فائضًا بغزارة سحابةٍ مداريةٍ إعصارية لا يُعرف لها حجم ولا يُنتظر منها توقف؛ فهل سار « العصريون» على خطى «الصحويين» دون أن يُدركوا ؟ وهل تكاثر حكَّاؤوهم حتى لم يعد مستمعٌ، وكُتّابهم فلم يبقَ قارئ؟
** وماذا عن الاستنساخ الذي برئت منه -بشكل مقبول- فتاوى فترة الصحوة لتعدد الاستفهامات كما لاختلاف المذاهب وتنوع المرجعيات فوقع فيه العصريون بصورةٍ مبالِغةٍ فكأنما هم يَصدرون من منبعٍ واحد ويرِدُون إلى مصبٍ مثله، وأين توارت معارفُ الكاتب ومعازفُه عن تحديد ملامح طرحٍ مليءٍ مستقلٍ نابضٍ باقتناعاته كما بإضافاته وإضاءاته ؟
** تراجعت النخب عن أداء دورها بما تملكه من خلفياتٍ وأدواتٍ، وصارت تابعةً للعامة أكثر من كونها مسايرةً بله قائدةً له، وهنا جِماعُ الأمر، وإذ تصدعت الصحوة من داخلها لعدم وجود أرضيةٍ مستقرةٍ لبناءاتها المتعددة فتهاوت (وتتهاوى) لتمسح عقودًا من تجربتها المسيطرة فإن العصريين -وهم شتاتٌ لا رابط يجمعهم- أقربُ إلى أن يتضاءلوا وألَّا يتفاءلوا بما يحميهم من السقوط في سفوح العادية والتكرار والفوضى.
** لم يستطع الصحويُّون خلقَ مشروعٍ يضمن مأسسةً فكريةً متزنةً متوازنةً فغابوا حين غاب عنهم السندُ الخارجي، والعصريون - اليوم - يعيشون مرحلةً دون معالمَ تحددها أو مشروعٍ يحتويها ويحميها مما آلت إليه الحداثة والصحوة والأدلجاتُ السابقة التي أطَّرت البناء الثقافي فترةً طويلة امتدت قرابة قرن؛ فهل نعي التأريخ ودروسَه أم أن مراحل التجريب ستهيمنُ بمحاولاتها وأخطائها ليؤولَ مسارُ العصريين ومصيرُهم إلى ما آل إليه سابقوهم ؟
** المشروعُ إرادةٌ وتخطيطٌ ومراجعة.