د. إبراهيم بن عبدالله المطرف
تتصدى مقالتنا هذه لقضية أصبحت تزداد أهميتها، وأكّدتها العديد من «المتغيّرات» الدولية والإقليمية في الأشهر القليلة الأخيرة، خصوصاً ما طرأ من أحداث في الساحتين الإقليمية والدولية خلال عام 2018 حيث تصاعدَت، وبشكل ملحوظ جداً، لهجة الحديث «العدائي» ضد المملكة، من بعض الأطراف الإقليمية والدولية، وصاحبتها موجةُ عداء استهدفَت شعب المملكة، وحاولت النيلَ من قادتها، والهجوم على موقعها الروحي والديني، وفي ساحتها الإسلامية، مُستهدفةً زعامتها في محيطيها العربي والخليجي، وفي مجالها الدولي.
وقد حاولت الحملة «العدائية» جاهدة، إلصاقَ تهمة الإرهاب بالمملكة وشعبها، على الرغم من فشل كل الدعاوى السابقة، وفشل كل الحملات «الهجومية» التي تعرّضت لها المملكة عقب أحداث سبتمبر 2001، واستهداف برج التجارة العالمي في نيويورك. الحملة «الهجومية» تعكس عداءً «مُزمناً» يتخذ من المملكة «خصماً» و»هدفاً» وعلى نحو لا يمكنُ التعويلُ على تغييره، بل يستدعي مواجهته بأساليبه وأدواته، فضلاً عن طروحاته الفكرية والسياسية.
واللافت للنظر هنا، تجنب هذه الحملات الإشارة إلى العلاقات «الاقتصادية»؛ خصوصاً العلاقات التجارية بين المملكة والولايات المتحدة الأمريكية، واختصار الحديث خلال الحملة عن صفقات عقدتها أو تعقدها المملكة في مجال التسليح، متناسية كل علاقات التعاون في القطاعات المختلفة.
وعلى الرغم من تأكيد الإدارة الأمريكية لأهمية السعودية كشريك تجاري كبير، وأهمية الصفقات التجارية التي تعقدها معها في كل ميادين العمل الاقتصادي، باعتبارها عقوداً تكاد تتفوّق على كل ما تعقده الولايات المتحدة مع أيّ طرف دولي آخر، إلا أنه لا يمكنُ قصر العلاقة بين الجانبين على الشراكة التجارية، أو وضعها في إطار اقتصادي على نحو أو آخر، وبشكل يعكسُ تحولاً إلى «تحجيم» الشراكة الإستراتيجية بين البلدين في هذه النظرة «الأحادية».
واللافت للنظر هنا أيضاً، هو أن الأصوات التي سعَت إلى مهاجمة المملكة والنيل منها، والهبوط بمستوى «الشراكة» الإستراتيجية بين البلدين إلى مستوى التبادل التجاري فحسب، هي الأصواتُ ذاتُها التي بادرت إلى الهجوم على المملكة، شعباً وهُويّة وقيادة، في مطلع الألفية الجديدة، وفي أعقاب حادثة سبتمبر 2001، ساعية في الوقت نفسه، ليس إلى مجرد إحداث توتر أو اضطراب في علاقة البلدين، بل إلى «تخريب» العلاقة، وإحداث قطيعة كاملة، وتحويلها إلى علاقة «عداء»!. ويمكنُنا ملاحظة «مشترك» بين هذه الحملات العدائية التي استهدفت المملكة و»فشلت» في السابق، وتلك التي تعرّضَت ولا تزالُ تتعرّضُ لها المملكة، وستفشل حتما.. ويتجسّد ذلك المشترَك في مدخل هذه الحملات من «تحجيم» العلاقة، ومحاولة قصرها على الاقتصاد، أو وضعها في»سلة واحدة لا تتسع إلا للتجارة» تقليلاً من شأن العلاقات الإستراتيجية بين البلدين، وفي محاولة للنيل من الأهمية الإستراتيجية للمملكة، في موازين السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية.
ولا شك في أن تحويل الموقف الأمريكي من اعتبار «الرياض» مجرد شريك تجاري، والتحول عن دعمها لكونها شريكاً إستراتيجياً كبيراً في أيّ مواجهات، وفي أيّ تحالفات دولية أو إقليمية، إلى تبرير ذلك بأهمية العقود العسكرية وصفقات السلاح المبرمة بين البلدين، هو منطق «خبيث» يسعى إلى ضرب الشراكة الإستراتيجية بين البلدين في القلب.
إن الحديث، فقط، عن حاجة الولايات المتحدة للعلاقات الاقتصادية مع المملكة، ممثلة في صفقات السلاح، أو بما توفره من فرص عمل للشركات الأمريكية، هو حديث مُريب، ولا يخلو من غرَض، وهو يكشف عن نوايا تستهدفُ في الأساس إثارة نعرة «متعصبة» ضد المملكة، إذ إنه حديث يستفز مشاعر العديد من السعوديين، فضلاً عن الأمريكيين، ومن أعضاء مجلس النواب وأعضاء الكونجرس الأمريكي على وجه الخصوص، الذين سيرون في مثل ذلك الحديث، إهانة للولايات المتحدة كقوة عظمى، يمكن شراؤها ببضعة مليارات من الدولارات، الأمر الذي يطرحُ على الدبلوماسية السعودية، واللوبي السعودي بمختلف تكويناته، «الانتباه» إلى ضرورة الابتعاد عن هذه اللهجة في الحديث عن العلاقات بين البلدين وتجنب الوقوع في «فخ» تحجيم العلاقة، والهبوط بمستواها والتقليل من أهميتها، بحيث يجري «تقزيمُها» في صورة التبادل التجاري، وحصرُها في صفقات «البيع والشراء».
ذلك أن الشراكة السعودية الأمريكية تعكس، وبحق، «وزنَ» المملكة وحجمَها وموقعَها في محيطها الخليجي والعربي والإقليمي، وفي عالمها الإسلامي، وعلى الصعيد الدولي، وتلك «دوائر» حركة المملكة الدبلوماسية، ومجال أداء سياستها الخارجية، التي حققت فيها جميعاً، -ولله الحمد والمنّة-، نجاحاً ملحوظاً في التأثير «الناعم»، كما حققت الكثير في مجال تأثيرها «الروحي» بين مختلف شعوب العالم.
ولم تكن الولايات المتحدة لتحرص على علاقتها «الإستراتيجية» بالمملكة، من دون إدراك قوي لأهمية المملكة وتأثيرها في دوائر حركتها، وفي المجالات «الحيوية» لسياستها الخارجية ودبلوماسيتها، حيث تحكم «المصالح» أداء السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية في كل مكان من العالم، وخصوصاً في الشرق الأوسط والمنطقة العربية.
وقد بات من الضروري «استثمار» الموقع الروحي والمكانة الدينية» و»الوزن» الكبير للمملكة في هذه الدوائر كافة، عبر آليات حديثة تعتمد على الإنسان السعودي. وفي هذا الصدد، فإن القضية تستدعي تناول جانب على قدر كبير من الأهمية، يتعلق بأبناء الوطن الذين يعيشون في الولايات المتحدة.. حيث يعرف المُبتَعَثون طبيعة البلد الذي يعيشون فيه، وطرق الحوار مع الأمريكيين، بل وسبل التأثير في هذا المجتمع، الذي وإن بدا غريباً عنهم، إلا أنهم اقتربوا منه، وأصبحوا بصورة أو بأخرى، جزءاً من نسيجه الذي يُتيح لمختلف الأعراق والأصول، أن تندمجَ، وأن تتواصلَ، وأن تتفاعل.