د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
حوّل الإعلام الرقمي الفضاء الكوني لقرية صغيرة كما قال ماكلوهان، لم تكن قرية إعلامية فقط بل قرية اقتصادية وقبل ذلك أخلاقية. وحقيقة الأمر أن الشركات الرأسمالية الكبرى هي من طوّر الاقتصاد الرقمي وساعدتها دولها في ذلك. وكان العالم منقسماً قبل ظهور الإعلام الرقمي الحديث إلى مجموعتين: مجموعة تتنافس على الإنتاج الاقتصادي، ومجموعات أخرى لا زالت في مرحلة الاستهلاك. ولذلك لا غرابة أن تكون المجموعة الأولى مرسلة، والمجموعة الثانية مستقبلة. وعند الضرورة فقط يتم تهجين الرسائل الاقتصادية والأخلاقية لتناسب القوالب الثقافية المحلية للدول المتلقية، وفي كثير من الأحيان تتم برمجة أفراد المجتمعات المتلقية استهلاكيًا لتوائم نفسها ما يفد عليها من منتجات من الخارج. الأفلام البرامج والأغاني يتم تهجين محتواها فقط في الدول المتلقية بينما يبقى الشكل الأساسي لها غربي رأسمالي.
لا توجد قوانين أو قواعد أخلاقية عالمية، والبقاء دائمًا للأقوى.. بل إن الكثير من المنظرين الإعلاميين والمشرعين للعالم الفضائي يرون أن اللغة الأخلاقية لغة عاطفية لا معنى لها لأنه لا يمكن التحقق من صحتها بشكل مستقل. ولذا لا حدود للتجاوز الأخلاقي على الشعوب الأخرى ولا خطوط حمراء. أما بعض الدول المتلقية للقصف الأخلاقي فتعتقد واهمة أن هناك حداً أدنى من الالتزام الأخلاقي يحمى شبابها الذي يعيش ازدواجية قاتلة بين ما يتلقاه في الداخل وما يفد عليه معولم في الخارج. وكثير منهم يبدأ فيما مراجعة مسلماته ليكون جزء من حراك العالم من حوله وموضاته المتلاحقة. وبينما يتخذ الإعلام العالم أساليب متطورة من الإقناع والإغواء، تحاول أدوات الإعلام التقليدي مقارعة ذلك بأساليب وعظ تقليدية مباشرة.
وعلى مستوى السياسة أيضًا، والقوانين التي تحمي السيادات المحلية إن سياسيًا أو إعلاميًا، مع صعوبة التفريق الكلي بينهما، تغيرت في العقود الأخيرة قواعد اللعبة من نظرية الالتزام بالقوانين الدولية والالتزامات الأخلاقية إلى نوع من البراقماتية والنفعية هدفها نهب الشعوب المستضعفة بمبررات عائمة كحقوق الإنسان، أو الحفاظ على مُثل الغرب، أو حماية حقوق فئات معينة كالمرأة والمثليين. وعند يتم الكلام عن مثل هذه الحقوق فالمحصلة النهائية لها هي عولمة قيم تصب في مصلحة فتح أبواب المجتمع ونوافذه على مصاريعها لقيم الاستهلاك الرأسمالي. ولذلك لا يستغرب تخلي هيئة الأمم المتحدة عن أهدافها الأساسية للحفاظ على السلم العالمي وحقوق الشعوب الأضعف إلى تبرير استباحتها.
لا توجد أخلاق صالحة لكل مكان وزمان ولجميع الشعوب، فالأخلاق موقف ثقافي حضاري تنتجه الشعوب، وليست معارف إدراكية أو اكتشافات علمية مسلم بها، وهي تنطلق من وجهة نظر الشعوب وليست هناك معاهدات أو قواعد أخلاقية يمكن الاتفاق عليها أو حولها وإلزام الجميع بها. والأخلاق ليست أمراً حدسياً نحس ونؤمن به تلقائيًا، إنما تنبع من المصالح والرؤي الخاصة، وقد تكون أحياناً فردية تعارض الأعراف الأخلاقية المجتمعية. ولو سلمنا جدلاً بوجود أسس طبيعية، أو قبلية، أو دينية للأخلاق فهناك مجال واسع للاختلاف حول تفسيرها أو انطباقها على الوقائع.
استغلال ظرف ارتباك أو تشوش فكري لمواطن أو مواطنة من ثقافة أخرى ومنحها اللجوء السياسي بشكل استعراضي، والمجاهرة بذلك واستغلاله لأهداف سياسية أو إعلامية لا يعد فقط هجومًا مباشرًا على هذه الثقافة، بل عملاً غير أخلاقي بحد ذاته. وهذا الأمر قد يكون موجهًا ليس بالضرورة ضد هذه الدولة مباشرة، بل هو موجه لجميع الدول التي تشاركها في الثقافة، وهو تصريح إعلامي أخلاقي موجه للعالم أجمع لتشويه الصورة الاجتماعية لنظم قيم أخلاقية مختلفة.
الحقيقة أنه لا يمكن بحال من الأحوال تقييم نظام أخلاقي بناء على مفردات وقوالب أخلاقية في نظام أخلاقي أخر. فهذه ترجمة لا تسمح بها الخصوصيات الثقافية. وهناك تباين أخلاقي مصدره اختلاف الأسس الأخلاقية للمجتمعات وليس ظواهرها فقط.
ما أقحمته الرأسمالية الأخلاقية على المجتمعات الأضعف اقتصاديًا وإعلاميًا هو نوع من الفردية الأخلاقية التي لا تؤمن بالمعايير المجتمعية. ينطلق فيها الفرد من فهمه، نظرته، أخلاقه، موقفه هو فقط دونما اعتبار لمجتمعه. وهذا ما تجمع عليه المنتجات الثقافية الغربية في أفلامها، ودعايتها، وأساليبها. تشجيع التنافس المحموم ليس في الاستهلاك والاستحواذ فقط بل وفي التحرر من القيود الأخلاقية. وتفتك هذه الأساليب في المجتمعات المغلقة الأضعف بشكل لا يقارن بتأث
يرها على المجتمعات المنتجة لها حيث يعرف الناس حقيقتها ويدركون أنها قوالب فنية وترفيهية لا غير. والعجيب أن المجتمعات الغربية ذاتها بدأت بالعودة لقواعدها وأعرافها التقليدية، بينما ينطلق الآخرون للتحرر منها. ولذا أعتقد أن فهمنا لبعض الظواهر يجب أن يقلل من تأثيرها علينا.