عبده الأسمري
ينبوع من الأدب.. وربوع من الثقافة.. انتصر لمواهبه فكان صدى بشريًا واستنصر لتاريخه فظل مدى أفقيًا.. رسم خريطة المعرفة بقلم «السداد الفكري» وبسط مناهج «العتاد التاريخي» في محافل السيرة من أعماق التجربة إلى آفاق الوقائع..
إنه الأديب والشاعر والمؤرخ السعودي عبدالله بن خميس (رحمه الله) الاسم الرئيس في قائمة الكبار وفي متن الاعتبار ووسط سجلات التتويج ومساجلات الاستحقاق.
بوجه نجدي وقور أليف يحمل تقاسيم أبوية توشحت بالشيب وتنضخ بالحنان تتشابه مع والده في الملامح وتتقاطع مع عائلته في المطامح وعينان تمتلآن «دراية» وشخصية منوعة الرؤى تلحفت بالوطنية واستأنست بالشعر وتوشحت باليقين وتجملت بقامة الصوت المهيب واستقامة الطيب واستجمعت الرأي المصيب مع صوت مخطوف إلى شؤون «القصيد» مشفوع بلغة فصحى مسجوع بتعبير فصيح ومفردات عميقة تنطق بالمشاهد وكأنها «براهين عينية» أمضى ابن خميس 7 عقود وهو يسابق بعد نظره ويتجاوز فكر مرحلته حتى ظل رمزًا في «خانة» العلا وركنًا في «نماذج» المسؤولية.
في «الملقى» إحدى ضواحي الرياض ولد ابن خميس حيث التقت طفولته مع بلاغته وتلاقت براءته مع بداهته وعاش بين اتجاهين بذخين من أبوة متفانية وأمومة حانية شكلت سلوكه وحددت مسالكه ثم نقل مع أسرته إلى الدرعية طفلاً.. فانخطف إلى مسارب البياض في تاريخها ومشارب الحرفية في مزارعها وركض بين منازلها الموثقة بقواسم «الحنين» وحقولها المعتقة بروائح «الطين» مستلهمًا من والده معاني الترغيب ومناهج التهذيب منجذبًا إلى قصص «الكفاح» بين ثنايا النخيل ومتجاذبًا مع براهين العيش في عصامية «الأولين».. تشرب «الاخضرار» في مرابع قريته فكان يكتب أمنياته بأبدع السطور مع خيوط البكور مرافقًا والده في أيام «الرزق « ومواسم «الحصاد» متأبطًا كتبه التي كانت تجاور محاصيل «التمور» ليكتب من عمق الأرض «سيرته الأولى» متصافحًا مع أمهات كتب كانت «أنيسة» يومه و»مؤنسة» ليله ليقرأ التاريخ من أفواه «الحكماء» ويستقرئ الأدب من ثغور «النبلاء» فكانت المزرعة مدرسة أولى والبيت أكاديمية مثلى والخلوة الثقافية ملهمة ذات وملحمة ثبات.
بدأ نظم الشعر دون سن الخامسة عشرة والتحق بمدرسة دار التوحيد بالطائف وبرع في الفنون وأتم دراسته الثانوية بها عام 1369هـ -ثم التحق بكليتي الشريعة واللغة بمكة المكرمة، ونهل العلم من مشائخ كبار مثل عبدالله الخليفي ومناع القطان ومحمد متولي الشعراوي ونال شهادة من الكليتين في عام 1373هـ.
برز في الأدب باكرًا وكان يستند على موهبة وهبة صقلها بالبحث والقراءة والشغف الثقافي. وعين مديرًا لمعهد الأحساء العلمي عام 1373 ثم مديرًا لكليتي الشريعة واللغة بالرياض عام 1375 هـ وفي عام 1376 عين مديرًا عامًا لرئاسة القضاء وفي عام 1381 صدر مرسوم ملكي بتعيينه وكيلاً لوزارة المواصلات وفي عام 1386هـ ترأس مصلحة المياه بالرياض. شعر ابن خميس بعد سنوات من العمل الحكومي بميله للأدب والتأليف فقرر التقاعد عام 1392هـ للتفرغ لعلمه وكتبه.
لابن خميس عشرات العضويات في المجمعات العلمية والمجالس والجمعيات وكان أول رئيس للنادي الأدبي بالرياض.. وفي عام 1379هـ أصدر مجلة الجزيرة التي تحولت إلى صحيفة أسبوعية ثم يومية بعد ذلك ليكون أحد أبرز مؤسسي الصحافة السعودية ومثل الوطن في عدة مؤتمرات أدبية وندوات فكرية ومناسبات ثقافية وعلمية وله عديد من المشاركات بالإذاعة والتلفزيون ومنها برنامجه الإذاعي الشهير (من القائل) ونشر عشرات البحوث والمقالات ونال جائزة الدولة التقديرية في الأدب عام 1403هـ -ومنح وشاح الملك عبد العزيز من الدرجة الأولى في مهرجان الجنادرية عام 1422هـ وتقلد عديدًا من الأوسمة من عدة دول وعدد من الجوائز والشهادات والدروع.
امتطى ابن خميس صهوة الشعر فكان شاعرًا بديعًا في النبط والفصيح ونموذجًا فريدًا في المناسبات الوطنية والعربية والإسلامية، إضافة إلى إبداعه في أدب الرحلات والمعارف المختلفة. اعتمرت الثقافة وجدانه المضيء بالسمو المعرفي فأثرى المكتبات بعشرات المعاجم التاريخية والدواوين الشعرية والنصوص وكتب التراث وأدب الرحلات والثقافة والمؤلفات المعرفية والنقدية.
توفي عبدالله بن خميس يوم الأربعاء 15 جمادى الآخرة 1432 بعد أن أتم «عطاءه» بدرًا في الذاكرة وانتثر «سخاءه» عطرًا في الذائقة فنطق الشهود واستنطق «الإرث» وتوثق «المعنى» ناصبًا صروح «العرفان» نابضًا بروح «العرفان» لرجل من طراز فريد استحق «ريادة» الوجهاء وسيادة «المؤرخين» وعمادة «الأدباء».