م. بدر بن ناصر الحمدان
إذا ما استمرت بلديات المدن السعودية في تحمُّل الأعباء والمسؤوليات الملقاة على عاتقها بهذه الصورة النمطية فإنها ستظل في معاناة مستمرة -ولن تنتهي- وسيكون مستقبلها أكثر تعقيدًا وغموضاً، وقد تصل إلى مرحلة حرجة قد تفقد معها التحكم في إدارتها في ظل التحولات العمرانية والمتغيرات التي طرأت على أسلوب حياة الناس ومتطلباتهم. ولا أعتقد أن الاستمرار في «المكابرة» أمام هذه التحديات يعد أمراً منطقياً، فالواقع يحتم أن تكون البلديات أكثر شجاعة في المضي قدماً واتخاذ قرارات جذرية تُعنى بتطوير بيئتها الإدارية والتنظيمية، وأن تعمل على إحداث نقلة نوعية في تطوير أدائها بأسلوب منهجي ومؤسسي يضمن تحقيق توازن كاف بين مسؤولياتها وإمكاناتها المتاحة، لأن بلديات المدن ستكون أمام اختبار حقيقي في قادم الأيام أمام معايير «التنافسية» الحضرية، وربما ستجد نفسها خارج مفضلة المدن المثلى، وإذا ما أراد مسيري هذه المدن تحمل مسؤولية التغيير فأمامهم ثلاث نصائح يمكنها أن تكون الأرضية التي يمكن الانطلاق منها نحو بناء مستقبل أكثر تحكماً.
النصيحة الأولى: (هندرة الموارد البشرية)، حيث إن نسبة كبيرة من العاملين في بلديات المدن هم من غير المتخصصين وتوكل لهم العديد من المهام التخصصية المرتبطة بشكل مباشر بمنظومة العمل داخل جهاز البلدية خاصة على المستوى التنفيذي، وبالتالي ينعكس ذلك على مستوى ونوع الأداء، وهذا يتطلب إعادة هيكلة وبناء عمليات الموارد البشرية من خلال مراجعة جذرية لهياكلها الإدارية وبرامج تأهيلها وبناء قدراتها، وكذلك الانفتاح على برامج التطوير والتدريب، واستقطاب القدرات الوطنية من القطاع العام والخاص وبرامج الابتعاث وتمكينهم من قيادة القطاع البلدي على كل مستوياته والتوسع في إشراك المنظمات الدولية وبيوت الخبرة في مهمة التطوير والتغيير.
النصيحة الثانية: (تحجيم المدن)، وذلك من خلال إيقاف نمو وتمدد المدن أفقياً ومراجعة النطاق العمراني وحدود التنمية وتقليص المناطق المخططة للتنمية وإعادة تقييم نمط استخدامات الأراضي ووظائفها الحضرية خلال الخمس والعشرين سنة القادمة. والتركيز على سياسة الانكفاء إلى داخل المدن ومحاولة الدفع بها إلى الانتقال من مرحلة النمو إلى مرحلة التنمية، فجل المشكلات الحضرية التي عانت وتعاني منها المدن السعودية نتجت عن التوسع المفرط في نموها العمراني، وبالتالي فقدت التحكم والسيطرة على تشغيلها وإدارتها، وهذا ما يظهر على هيئة تدهور في بيئتها الحضرية وتدني مستوى الخدمات في تجهيزات البنية التحتية الأساسية.
النصيحة الثالثة: (إعادة هيكلة المسؤوليات)، لطالما تحملت البلديات أعباء ومسؤوليات جهات أخرى سواء كانت حكومية أو خاصة أو حتى تطوعية وخيرية ووجدت نفسها من قطاع مساند إلى قطاع مسؤول فبات من الأهمية أن تقود البلديات برنامجاً جديدًا يُعنى بمراجعة توزيع المسؤوليات في إدارة المدن ونقل كثير من المهام التي تضطلع بها البلديات حالياً إلى الجهات ذات الاختصاص مثل مواضيع (وثائق الأراضي، إنارة الشوارع، التشجير، الفعاليات، المراقبة الصحية، تصريف السيول.. وغيرها)، وتتحول بلديات وأمانات المدن إلى جهة مشرعة وموجهة ومنظمة تجاه هذه المهام وفق منظومة واضحة لجهاز الإدارة المحلية وبما يتسق مع النظام الحضري العام للمدينة، لتتفرغ هي إلى التركيز على ممارسة مهامها الأصيلة في «الإدارة العمرانية» و»ضبط التنمية المكانية» و»التخطيط العمراني» بهدف بناء مدن ملائمة للناس وصالحة للعيش.
خلاصة الأمر، إذا ما أردنا أن تكون المدن السعودية ضمن قائمة الأفضلية العالمية علينا أن نكون أكثر «شجاعة» وتحملاً لمسؤولية اتخاذ «قرارات جريئة» و»تغيير عملي» خارج إطار الإجراءات النمطية والتقليدية، فلم يعد هناك مجال للانتظار أمام هذه المنافسة التي تخوضها مدن العالم، ولم يعد من المقبول الاستسلام لإجراءات وأنظمة وسياسات متقادمة لم تستطع أن تثبت طوال كل هذه السنوات التي مرت أنها قادرة على «ضبط التنمية» أو بناء «مدن مؤهلة» لاحتضان حياة الناس.