سام الغُباري
جلستُ إليه في مكتبه، وقد سمعتُ أنه لا يستخدم الأقلام التي تصرفها وزارة المواصلات خارج أوقات الدوام الرسمي. يضع كل ما للحكومة من أدوات ومعدات وسيارات في أماكنها، ويخرج من مبنى وظيفته متخففًا من كل شيء، حتى القلم! قلت متعجبًا: هذا تشدد منك ومبالغة! تبسّم وقال: هل تريد أن يسألني الله عن سوء استخدامي لموارد النظام العام واستغلاله لأعمالي الخاصة؟
- ولكنه قلم!
- رفع سبابته في وجهي «مثقال ذرة»!
مات عمار الأكوع النبيل، الشريف، البهي، الباسم.. رحل نجل المفتي العظيم.. رحل حزينًا على اليمن. وقد التقيته في «القاهرة» قبل أشهر في زيارة خاصة للاطمئنان عليه. رأيته مؤمنًا، قانعًا، راضيًا، محتسبًا.. نال منه السرطان الخبيث، وأقعده بعيدًا عن أهله وأصدقائه. قتله السرطان كما قتل «السرطان الحوثي» كل اليمنيين. موت الخلايا وجنونها ينتشر في كل اليمن، كأنها رحلة ابتلاء أبدية. مدار مؤثر في تصرفاتنا وأحلامنا.. يعيد التاريخ بعناد فوضوي، وبشاعة أخرى تشبه وجه السرطان الذي يساعد الحوثيين في القضاء على اليمنيين. وهذه المرة نال من أنبل شباب مدينتي «ذمار»، وأعزهم قيلاً وقبيلاً..
قُلت هذه الكلمات قبل سنة، وعادت الذكرى لتذكِّرني بها وبه، فأوجَبت عليّ إخراج ما كتبت إلى نور الصحافة الورقية اليمنية، وهي مأكولة أيضًا بخلايا المواقع ووسائل التواصل «السرطانية»!
- إنها ذكراه الأولى.. وفي الذكريات تتجلى النهايات، نهاية كل شيء، انفضاض كل زحام، وانحباس كل روح، واندثار كل حضارة ،وانتهاء مواطنينا الكبار.. في صباي لم أتوقع أن يُهزم «جدّي» أمام الموت، كان جبارًا، جادًّا، صارمًا، قويًّا وثريًّا، أسمر الوجه كلقبه «الغباري»، انتهى في القبر! احتضنت رأسه الجامد لأول مرة في حياتي، تحسست مهابته ساكنة دون حراك، شاربه الحليق ودُعْوَيْقَته المنمقة، حاجبيه العريضين، عينيه، ندبته الظاهرة أسفل عينه اليمنى.. وفي موته جبروت مُضاف، تفرضه جلالة الموت وصيحات العزاء.
قال لي -رحمه الله- وهو يتحسس ندوب رصاصة صيد طائشة، اخترقت ذراعي وبعضًا من ضلوعي، مُستذكرًا بابتسامة عجوز راشد مقولة كررها عليّ: إن النساء يحببن الندوب! وقد قلتها لنجلي أيضًا وأنا أتحسس ندبة في ظهره، أظهرتها طعنة زجاج قديم على شرفة منزلنا المحتل.
انتهت مدينتي، وانتهى جدّي، وانتهى عمار، وانتهت البراءة في ديار طفولتي.. اختفت نسوة في صنعاء، وانتهى العار كوسيلة للاختباء من شرف عاجز. وانتهت الحياة في اليمن، ماتت كأضحية مُعلقة أمام جزّار يحفل بشراشيبه وسكاكينه وقيوده، وآثار الدم تصحبه عند منتهى القيمة الأولى.. لقد كنت هناك فانتهيت ذكرى لعائلتي، ولم أعد أراهم إلا قليلاً في برامج الصوت والصورة كأنني رجلٌ آخر، خطفته رجلاه لزيارة أصدقاء قُدامى، يستذكرون لحظاتهم القديمة بضحكات مجلجلة عبر الأثير! كأنه لم يكن بينهم دمٌ وروح وحليب ورحمٌ واحد، جمعه بهم أجمعين، وأخرجهم إلى يمن تتناقص عندها الروح، ويخفت ضوؤها في ظلمة السُلالة المدهشة، وهي تعدو نحو حتفها، وتجتر معها مذبحة قادمة، ونهاية ثكلى لأحقاد سافرة، تجمعت في قلوب الرجال والنسوة الغاضبة.
ستنتهي الحرب ولا تنتهي قضيتنا، هي الشيء الكبير الذي لا ينتهي، لا يموت إلا بفناء الخلق وإعلان الصيحات الكبرى، هي الهوية اليمنية على ما عداها من هويات خارجة عن آداب العامة وأخلاق العرب، هي الرمز للحل، وهي اللغز الكبير الذي لا يُحل إلا بصراط واحد، يبدأ من باب اليمن في صعدة، وينتهي بباب المهرة شرقًا، يطوف مطوقًا بحريّ العرب والقلزم، منشدًا بحروف مُسندية:
ها هنا بعض النّجوم انطفأت
كي تزيد الأنجم الأخرى «اشتعال»
تفقد الأشجار من أغصانها
ثمّ تزداد اخضرارًا و«اخضلال»