د.عبدالله مناع
عندما غادر زعيم فرنسا التاريخي: (شارل ديجول) قصر الإليزيه.. في أوائل عام 1970م.. بعد (الاستفتاء) الذي دعا إليه، ولم تعجبه نتائجه -رغم حصول زعامته على أكثر من ستين بـ(المئة)- واعتزل السياسة والعالم، وغادر معشوقته «باريس» ومسقط رأسه «ليل».. إلى قرية «كولومبي» الشمالية الصغيرة الباردة -كـ(القديس برنان)- كان يقول لـ(صديقه) ووزير ثقافته الدائم طوال سنوات حكمه الأخيرة التي امتدت به لاثني عشر عاما: «اندرية مالرو»، الذي أخذ.. بعد العدة لكتابة قصة (قصة حياة) صديقه وزعيمه.. حتى لا يكتبها الآخرون نيابة عنه: «لفرنسيون»، كما تعرف يصعب عليهم التصرف بين رغبتهم في التمايزات، وذوقهم في المساواة.. ولكن وسط هذا العالم الجميل.. لم يكن لي سوى خصم واحد، هو خصم فرنسا: المال».؟ رغم أنه لم يكن (شيوعياً) أو اشتراكيا.. ولكنه كان (وطنياً) فرنسياً يمثل (روح الحضارة الأوروبية)، كما قال لصديقه (مالرو) وظهر-فيما بعد- في كتابه (أنا وديجول)..!
فـ(المال).. هو مشكلة مشاكل «فرنسا».. البلد الجميل: بلد.. النور و(الحرية الإخاء والمساواة): قبل وبعد زعامة زعيم الجمهورية الرابعة ومؤسسها (شارل ديجول)، الذي تبلغ فيه تكلفة المعيشة حداً لا يطاق!! ليس بالنسبة لـ(السياح) والغرباء من أمثالنا.. ولكنها تمتد إلى الفرنسيين أنفسهم.. ممن يعيشون في المدن (الفرنسية) الأقل شهرة من «باريس»، أما العيش في «باريس».. فإنه لا يقوى على «تكلفته» إلا القادرون من زوارها.. ومن أبنائها أيضاً...! أما الطبقات الشعبية ومحدودو الدخل ممن يعيشون في أطراف «باريس»، وفى أحيائها الشعبية.. فقد كانوا هم جماهير لابسي (السترات الصفراء)...!! الذين لحق بهم فيما بعد (لابسي السترات الزرقاء) الذين تظاهروا انتصاراً لرجال الشرطة والأمن.. للمطالبة بتحسين مرتباتهم، والتعجيل بدفع بدلات عملهم خارج أوقات الدوام المؤجلة...!!
لقد أفلت الرئيس السابق «فرنسوا هولند».. بـ(اشتراكيته) من أزمة (المال) هذه.. بـ(قوانينه الضريبية) المتصاعدة على الأغنياء وأصحاب رؤوس الأموال الكبيرة، والشركات والمؤسسات التجارية والصناعية.. ليقع فيها الرئيس التاسع لـ(الجمهورية الخامسة) الرئيس إيما نوبل ماكرون، مرشح (تيار الوسط) وحركة (السير إلى الأمام)، الذي تكتل خلف فوزه الأغنياء والقادرون والمؤسسات والشركات التجارية والصناعية الكبرى.. بل والحزب الاشتراكي والرئيس السابق «هولند» نفسه ليفوز على مرشحة حزب (الجبهة الوطنية) الفرنسية اليمينية المتطرف: السيدة: «مارين لوبان» حتى يقطعوا الطريق عليها.. وعلى تطرفها، فقد كفاهم تطرف الرئيس الأسبق (سار كوزي) ونواياه العنصرية لو قدر له الفوز بدورة رئاسية ثانية.. إلا أنه سقط في انتخابات الدورة الثانية لرئاسته في الإليزيه.. فأراح فرنسا منه.. ليأتي إلى (الإليزيه) الرئيس الفرنسي الاشتراكي الثاني: «فرنسوا هولند»، الذي امتنع عن (التجديد) لنفسه بخوض انتخابات العام الماضي -2017-.. ليصل الرئيس ماكرون في النهاية إلى (الإليزيه) بشبابه وحيويته.. فاستبشرت بقدومه الأوساط الفرنسية السياسية خيراً، فهو أول رئيس للجمهورية.. يقود البلاد وهو في مطالع أربعينياته، لتمضي شهوره الأولى في (الإليزيه) بخير وسلام...!
***
ولكن بعد ثمانية عشر شهراً من وجود الرئيس ماكرون في (الاليزيه).. انطلقت أول مظاهرات أصحاب (السترات الصفراء) من أهم وأجمل شوارع مدينة «باريس».. من شارع (الشانزليزيه)، الذي يمتد بطوله الجميل والحافل بـ(المقاهي) والمطاعم وأجمل (فترينات) الأزياء والعطور.. من (قوس النصر) إلى مسرح (الجراند باليه).. رداً على مفاجأة الحكومة الفرنسية بـ(إعلانها) عن زيادة ضريبية جديدة في أسعار الوقود والطاقة عموماً، والمطالبة بإلغائها.. إلى جانب مطالبتهم برفع الحد الأدنى للأجور، وقد كانت مظاهراتهم في سبتها الأول.. سلمية لا عنف فيها، ولكن مع تكرارها في سبتها الثاني والثالث ظهرت قوات الشرطة لتفريقهم بإطلاق القنابل المسيلة للدموع عليهم..، ومطاردة المحرضين منهم.. لإلقاء القبض عليهم، وهو ما حول المظاهرات السلمية.. إلى مظاهرات عنف مبالغ فيها.. امتد إلى تحطيم زجاج نوافذ العمارات و(فترينات) عرض الأزياء.. بل وحرق المركبات وخلع بلاط الأرصفة الجميل.. رغم السرعة التي اتخذ بها الرئيس ماكرون قراره بإلغاء تلك (الزيادة)...!
لقد كان (المال) خصم فرنسا.. كما قال «ديجول» والخلاف حوله هو السبب في هذه التظاهرات التي انضم اليها لابسو (السترات الزرقاء) بل والعمال والطلبة والمزارعون.. وقد أخذت مطالبهم ترتفع أسبوعاً بعد أسبوع.. إلى حد المطالبة بـ(تنحية) الرئيس ماكرون نفسه، الذي لم يأت إلى (الاليزيه) على دبابة.. أو عبر انقلاب مدني أو عسكري.. بل جاء عبر واحدة من أعقد الانتخابات الديموقراطية.. إذ يكفيه أنه فاز بـ(رئاسة) فرنسا من بين أحد عشر مرشحاً لها في انتخابات مايو 2017م..!
ليفلسف وزير المالية «رولو لومير».. ما حدث والذي ربما كان هو أو رئيسه (إدوار فيليب..) هما أصحاب فكرة هذه الزيادة الضريبية على أسعار الوقود ومشتقاته التي فجرت الشارع الشعبي الفرنسي من متوسطي الدخل وفقرائه).. ضد الرئيس وسياساته الاجتماعية و(الضريبية).. عندما قال: (إن البلاد منقسمة.. وإن الخلاف في أساسه.. هو خلاف حول «العولمة» بين: من يرون أنها أفادتهم، وبين من يواجهون مشكلات تدير نفقات المعيشة، وهم يقولون إن «العولمة» ليست «فرصة» بل «تهديد»، ودور الرئيس هو أن يعيد توحيد البلاد)..!!
ليتحرك الرئيس ماكرون بكل وسائله وعلاقاته (النقابية).. ليعلن للأطراف جميعاً دعوتهم لـ(المشاركة) في حوار وطني موسع عبر الانترنيت وعبر قاعات بلدية باريس.. حول أربع نقاط رئيسية.. هي: (الضرائب والطاقة الخضراء، والإصلاح الدستوري، والمواطنة)، وأن هذا الحوار.. لن يمس الإصلاحات الاقتصادية التي أعلنها ماكرون من قبل، والتي تأتي في مقدمتها إلغاء الضريبة الجديدة على أسعار المحروقات!؟
فهذه هي (فرنسا) العظيمة، التي أحبها العالم: فرنسا يوليه 1789م.. فرنسا الحرية والإخاء والمساواة!؟
***
ولأن (العالم) بأسره.. ومن شرقه إلى غربه.. إلى جنوبه وشماله يعرف حق المعرفة غلاء المعيشة الفاحش في فرنسا عموماً.. ومدنه الرئيسية الثلاث خصوصاً: «ليون» و»مارسيليا» و»جرينوبل».. أما في العاصمة الفرنسية نفسها «باريس».. فإن غلاء المعيشة فيها يبلغ حد (الخرافة)!! إلى الحد الذي يتحرج معه المتابعون السياسيون.. عن ذكر أي ثمن من أثمان سلعها الفلكية.. حتى لا يتهمون بـ(المبالغة) أو ربما (الكذب)! ولذلك كان تعاطف الرأي العام العالمي.. مع متظاهري (السترات الصفراء).. في احتجاجاتهم على تلك الضريبة البترولية الجديدة.. ولكن عندما تحولت مظاهرات أصحاب «السترات الصفراء» إلى العنف والتخريب بهدف إسقاط الحكومة.. دون مراعاة للحفاظ على مفاتن «باريس» ومقتنياتها الجمالية التي جعلت منها أجمل عواصم العالم قاطبة.. إن كانت في (قوس النصر) أو في أسوار (اللوفر) وهرمه الزجاجي الفريد أوفي برج (إيفل) أو في موجودات ميدان (الكونكورد) ونوافيره أو في ميدان بلدية باريس و(مسلته) الفرعونية عندها تحول مؤيدو(السترات الصفراء).. إلى (ناقمين) عليهم، فـ(مفاتن) باريس.. وإن كانت هي ملك لـ(أبنائها) وللفرنسيين جميعاً.. إلا أن عشاق الجمال في العالم يشاركون فى تلك الملكية بـ(الحرص) على مفاتن «باريس» وبـ(الخوف) عليها والدفاع عنها.. إذ لا يقبل ولا يعقل أن يكون (النازيون) عند احتلالهم لـ»باريس» عام 1939م أكثر حرصاً على مفاتنها، وحنواً على موجوداتها.. من أهلها من لابسي (السترات الصفراء أو الزرقاء)، فلم يطلق النازيون أثناء احتلالهم رصاصة واحدة على أي من تلك المفاتن الجمالية...!؟
ولذلك سيبقى العالم مع لابسي السترات الصفراء في (حقهم).. وليس في (باطل) تخريبهم لـ»باريس» والاعتداء على (مفاتنها) ومقتنياتها...!!