د. إبراهيم بن محمد الشتوي
يمكن القول إن كلمة «نكتة» أصابها نوع من التطور الدلالي، ففي الوقت الذي كانت تدل فيه على الفائدة العلمية، أو الملاحظة الموجزة العلمية أو كما يصفها المعجم الوسيط بأنها «المسألة العلمية الدقيقة يتوصل إليها بدقة وإنعام فكر»، أصابها تحول في العصر الحديث إلى ما يسميه القدماء بـ»الملح»، أو «الملحة»، وهي الحكاية القصيرة تؤدي إلى ضحك المتلقي، وتدخل أيضاً فيما يسميه القدماء بـ»الظرف».
وحين نتأمل كثيراً من هذا النوع من القول نجده يتميز بسرعة الجواب، وذلك أنه يدل على الجواب الحاضر الدقيق، وسرعة الملاحظة، كالذي يرويه صاحب زهر الآداب أن رجلاً دعا أشعب إلى الطعام، فاعتذر محتجاً بالخوف من أن يشاركهم أحد ينغص عليهم مأكلهم، فوعده صاحب الدعوة ألا يشاركهم أحد، فاستجاب، وحين استقر بهم وبالخوان المقام، طرق الباب طارق، فقال أشعب: أرأيت أن صرنا إلى ما نكره، فقال صاحب الدعوة: فيه عشر خصال إن كرهت واحدة منها لم نأذن له بالدخول. قال أشعب ما هي: قال: الأولى أنه لا يأكل ولا يشرب. قال أشعب: ائذن له بالدخول. الباقية لك.
أو ما يروى عن أبي العيناء أنه كان في مجلس المتوكل فقال له الفتح بن خاقان يمازحه: إن أمير المؤمنين يريد أن يوليك على الكلاب والقرود، فقال أبو العيناء للفتح: إذن تسمع وتطيع. يقصد أنه من الكلاب والقرود.
وهذا الضحك الذي تحدثه «النكتة» في المتلقي هو نوع من الاستجابة للقول، والتأثير به الذي يبحث فيه الأدب، وسواء كان هذا التأثير إثارة الحزن في نفس المتلقي لأجل أن يرق لحال المتكلم، ويحزن بحزنه أو كان إثارة الإعجاب فيمتلئ المتلقي بحب الموصوف الممدوح والإعجاب به، أو كان الكراهية والاحتقار كأن يحتقر المتلقي المذموم ويستخف بقدره، فإنه موضوع الأدب، والإضحاك نوع من هذا التأثير مما يجعل «النكت» أدباً.
بيد أن الباعث على الإعجاب بهذه الحكايات لا يتفق مع الباعث على الإعجاب أو التأثر بفنون القول الأخرى، ما يجعل النظر فيها لا بد أن يكون مختلفاً كذلك عنها، بمعنى أن وسائل الإثارة فيها -بصورة أدق- تختلف عن وسائل الإثارة بالفنون الأخرى، إذ ليس بالضرورة أن تكون إحكام النسج، ودقة الوصف، والغوص على المعاني، والتي عادة ما توصف بها الأنواع الأدبية المختلفة، وتنتج عنها الدراسات البلاغية المتنوعة، إلا أن اشتراكها معها في التأثير يجعلها ذات قيمة أدبية تستحق الدراسة والتأمل، للكشف عما تشتمل عليه من مكونات تجعلها تقوم بهذا الأثر خلاف ما تبدو عليها في ظاهره الذي لا يتوافق -أحيانًا- مع ما تتسم به الفنون الأخرى، أو ليس هو العنصر المميز لها الذي يجعل الناس يتناقلونها.
على أنه من المهم الإشارة إلى أن بعض النصوص والحكايات القصيرة «المقطعات» تورد لبنائها اللغوي، وربما جعلت في صف واحد مع «النكت» في الكتب التي تعنى بهذا اللون من الأدب، وإن أوردوها أحياناً بباب خاص يكون للملح أو ما يروح به عن النفس.
وهذا يوصلنا إلى القول إن ما يميز هذه «النكت» ليس بالضرورة أن يكون مما سبق ذكره حيث تكون ميزتها سرعة الجواب، وإنما قد يكون هناك أسباب أخرى مكنتها من التأثير في السامع ودفعه إلى الاستجابة لها والضحك.
وهذا، الإضحاك ليس أمراً يسيراً، يتقنه الجميع، ولذا وجدنا الناس يختلفون فيما بينهم فيما يجعلهم يضحكون. ولا أقصد هنا اختلاف الثقافة، فما يضحك عليه العربي قد لا يضحك عليه الإنجليزي وكذلك العكس، وإنما أقصد الأشخاص فيما يستمعون إليه أو يتلقونه.
وقد يظن البعض أن الأمر متصل بالرواية، أي رواية «النكتة»، وإن كان هذا صحيحاً، فإنه يمكن القول: إن «الرواية» هنا فن قائم بذاته، وقد أشار الجاحظ إلى ذلك، وذكر أيضاً بعض الوسائل التي تجعل الراوي ينجح في روايته، فهي تقوم على أنه يتخيل الموقف الأصلي الذي قيلت فيه «النكتة»، ويسعى لاستصحابه في وقت النطق بها، ويستعين بالعناصر التي تساعده على ذلك كأن يلون صوته أو أن يورد الطرفة بلهجة المتحدث الأصلي في موقفه الأول، أو أن ينطقها بلفظة تخدش الحياء قام فعل الإضحاك عليه في سياقها الأول. ولأن المتلقي في الغالب يكون متهيئاً لهذا الجو فإنه يتصور موقف النكتة الأصلي الذي قيلت فيه، فيعيش فيه أو يطبقه على الواقع أمامه، فيتأثر به، ويستجيب للقول.
وهذه الاستجابة من لدن المتلقي قائمة على الاستعداد النفسي الذي تؤسسه معرفته السابقة براوي النكتة، أو بالسياق الأول الذي قيلت وقدرته على الاستجابة لأثر الألفاظ في النفس أو الصوت أو غيرها من الوسائل التي يتوسلها الراوي، فهي -الاستجابة- مبنية على خبرات سابقة ينبغي أن تتوافر في المتلقي يخاطبها الراوي.