الثقافية - محمد هليل الرويلي:
بالفعل يا أعرابي كان ذلك حال ديواننا الشعري الذي عشناه وانتديناك فيه مطلع الأسبوع المنصرم حتى أروينا صحافك وأترعنا قِرَبَك حتى فاضت بالشّعر نصبه فيها صبّا, أعَببناك قولًا ومنقولًا من مفردات أصيلها. واليوم يا حادي العيس, وقبل أن تعود قافلًا لجزيرتك، فتعال معنا ولا تغاول في سيرك, بل أطل المهل وتسهل؛ فأنت في صحبة من عشقوا الصحراء، ونصبوا خيامهم السود خازنين من رمال الصحراء الكبرى تضاريس أعقاب خُطاهم البيض.. وكلما هبّت رياح الخماسين أورقت أطراف أصابعهم, وجبال «تيبستي» كالطود يمد لهم الظِلال الجنوبية متعهداً لهم في فضاء الله بأنه مزملهم بالدفء والأمجاد أمام وخلف ذواكرهم «مستقر ومجرى», ما يكفي ما يعتصمون به إذا تلاطمت وتضابنت طالع القِبْلات والوجهات..
تعال يا أعرابي لننقلك من تخم ديوان شعرائنا لتخوم أخرى عمّرناها وزيناها بأثير ونفائس البراجد والسرادق منذ مطلع ثلاثينيات القرن من زمننا السالف؛ لنجمع لك من سُلاف القوم ملامح حركتنا النقدية الليبية التي لم تتعيل وتتميل, بل بزغت ممنهجة كبازغ الأفلاك في الأنجم الزهر. وكلما سفنت الريح في الصحراء الليبية تأكد بأنها إنما سفنت لتقص عليك من نبأ (قصص) القوم، وتروي لك من (رواياتهم) من دون سفياء. هذان الديوانان سندخلهما من باب (الرواية والقصة) بعد أن نستهل طرق باب قومنا الأول (النقد). واعلم يا رعاك الله حين تنوي تسطير مقالتك عنا أننا في كلاها لم نكن نتشكل بمعزل عن الحالة القلقة التي لازمت مجتمعاتنا منذ أواخر الحكم العثماني، وبداية الاحتلال الإيطالي في مطلع القرن العشرين، وصولاً إلى تداعيات الحربين العالميتين، وانتهاء بظهور ملامح الاستقرار السياسي في منتصف الخمسينيات. طف بكل الأبواب يا أعرابي، وسنكفل أن لا طائف سينتزعك ويختطفك وأنت بيننا في وطن الشمس والرمال المسبوكة كلفائف توشج الريح والبحر المتوسط الزخور، ويكأنه بعد هذا يطاول شواطئها الجبال والأعراق الليبية العريقة. قلت: خذوني وعلى أبواهم دلوني..
بعد أن طرقنا في الجزء الأول باب الحركة الشعرية الليبية، وتطرقنا لأبرز الشعراء من جيل الرواد وصولًا لشعراء العصر الحديث، نستهل الجزء الثاني دالفين من باب حركتهم النقدية التي تبدو هي الأخرى كالشعر لصيقة للحالة القلقة التي عاشوها, متأثرة بعوامل ومحطات وتداعيات عدة, كما أوضحها «للثقافية» الدكتور «حسن الأشلم» أستاذ الأدب والنقد, العميد السابق لكلية التربية في جامعة مصراتة، الذي قال: بالفعل ملامح الحركة النقدية الليبية لم تكن بمعزل عن الحالة القلقة للمجتمع الليبي منذ أواخر الحكم العثماني، وبداية الاحتلال الإيطالي في مطلع القرن العشرين، وصولاً إلى تداعيات الحربين العالميتين، وانتهاء بظهور ملامح الاستقرار السياسي في منتصف الخمسينيات. وفي المجمل فإنه لا يمكنا الحديث عن ملامح حقيقية للنقد الليبي في مرحلة ما قبل الاستقلال إلا من خلال بعض المحاولات النقدية في «جريدة الترقي» أواخر القرن التاسع عشر، أو في فترة الاحتلال الإيطالي الثاني في أواسط الثلاثينيات التي شهدت البداية الحقيقية للحراك النقدي، وذلك من خلال ظهور مجلة ليبيا المصورة التي شكلت محطة مهمة في تشكل المشهد الأدبي الليبي بهويته الحالية؛ إذ كان هذا الحراك الأدبي مؤشرًا لبداية الحركة النقدية؛ كونها كانت تؤسس للتجديد في المشهد الشعري الليبي, إضافة إلى الترويج لأجناس أدبية جديدة عليه، كالقصة القصيرة والمسرح؛ فتشكلت حركة نقدية محلية، كانت في مجملها صدى لانتشار الصحافة النقدية في المشرق؛ فبرزت أسماء لأدباء امتهنوا كتابة المقالة النقدية، كأحمد رفيق المهدوي، ووهبي البوري، وراسم قدري.
غاب النقد الأكاديمي في الجامعات فهيمنت حركة «النقد الصحفي»
وأضاف: غير أن مرحلة الاستقلال تعد المحطة الأهم لتبلور النقد الليبي؛ إذ شهدت انفتاحًا واسعًا على الآخر؛ تمثل في استلهام المدرسة المشرقية أدبًا ونقدًا وثقافة وتعليمًا؛ فنشأت التيارات الأدبية التي تبعها تشكُّل حركة نقدية، كان لها رموزها الأفذاذ كخليفة التليسي وكامل المقهور اللذين طالبا بأن يكون الشعر والقصة معبرَيْن عن الهوية الليبية، وحثا على ضرورة نبذ التقليد ونقل النموذج الجاهز في الشعر والقصة. وانضم إليهما كوكبة من الأدباء النقاد «كعبدالقادر أبوهروس وعلي مصطفى المصراتي ومحمد المهدي أبوحامد». أما في الستينيات فقد دخلت الصحافة مجال النقد؛ فبرزت مجلتا الإذاعة والرواد اللتان كانتا منبرًا للأصوات النقدية التي واكبت الحركة الأدبية الصاعدة، كما ظهرت كتابات يوسف القويري النقدية الرصينة.
وازداد زخم الكتابة النقدية الصحفية في مرحلة السبعينيات والثمانينيات؛ لتأسس مدرسة نقدية حقيقية، هيمنت على المشهد النقدي، وعوضت غياب النقد الأكاديمي في الجامعات، عُرفت بحركة النقد الصحفي الذي صبغ المشهد النقدي الليبي بصبغته؛ فكانت له منابره الصحفية الرصينة في صحف ومجلات مثل الحقيقة والأسبوع الثقافي والثقافة العربية والفصول الأربعة التي فتحت آفاق الكتابة النقدية لأصوات نقدية داخل ليبيا وخارجها؛ لتتشكل من خلالها أصوات ورموز من النقاد الصحفيين المميزين الذين أعادوا نشر مجمل نتاجهم في الصحافة على هيئة كتب، حملت ملامح مشروع نقدي ليبي، كان في مجمله استجابة انطباعية لم تخلُ من ملامح أيديولوجية للتيارات اليسارية بأبعادها المختلفة. وكان للنقد الصحفي رموزه المميزون، كالصادق النيهوم، وأحمد الفقيه، وسليمان كشلاف، وعبدالله القويري، وكامل عراب، وأمين مازن، وخليفة حسين مصطفى، ورمضان سليم، وفوزي البشتي.
تحرر النقد من المد القومي فبرزت الهوية الليبية
أما مرحلة التسعينيات فيمكن وصفها بأنها «مرحلة التأسيس» الحقيقي؛ إذ شهدت نقلة نوعية من خلال دخول المؤسسة الأكاديمية على خط النقد المنهجي، وزيادة نشاط الصحافة النقدية بظهور عدد جديد من المجلات الليبية المتخصصة، كمجلة علامات، ومجلة عراجين؛ إذ وقفت أسباب عدة خلف هذه الحيوية النقدية، لعل أبرزها التحرر النوعي من موجة المد القومي؛ الأمر الذي سمح بإبراز الهوية المحلية للأدب الليبي، إضافة إلى انفتاح عدد كبير من الطلاب والأساتذة الموفدين على مدارس جديدة احترافية منهجية جديدة في التحليل، وبخاصة المدرسة المغاربية، حيث درس عدد كبير من الأساتذة في الدكتوراه، وعادوا إلى المؤسسات الجامعية الليبية؛ ليقودوا ويشكلوا ملامح المرحلة الثانية من مراحل النقد الليبي، منهم محمد مسعود جبران، وصالح البغدادي وعلي برهانة ومحمد سعيد محمد وفاطمة الحاجي، وسبقه وواكبه أيضًا دخول نقاد عرب، نقلوا خبراتهم، وشكلوا حافزًا شجع المؤسسات الأكاديمية على الدخول لمجال الدراسات النقدية. ومن هؤلاء سمر روحي الفيصل صاحب أول كتابين منهجيين عن الرواية الليبية، إضافة إلى أساتذة عرب آخرين مشهود لهم بالإسهام النقدي الجاد، الذين اشتغلوا في عدد من الجامعات الليبية في فترة التسعينيات، كصالح هويدي، وكريم الوائلي، ومحمد الكواز من العراق، ومحمد الخبو من تونس، وغيرهم..
الاشتغالات الحديثة والمختبرات النقدية الإلكترونية
وتابع: بعد ذلك ظهرت مشاريع حقيقية لتطوير الدرس النقدي في الجامعات من خلال أساتذة أشرفوا على توجيه دفة الدراسات العليا نحو الاشتغالات الحديثة في النقد الأدبي وفي الدراسات اللغوية، منها تجربة د. حسين الرميح في جامعة الزاوية، وتجربة د. طاهر بن طاهر في جامعة مصراتة الذي أتاح لطلابه التعرف على المدرسة النقدية التونسية من خلال التعاون مع د. محمد الخبو من تونس رئيس وحدة الدراسات السردية بمنوبة - تونس. كما أسهمت تجربة د. علي برهانة ومحمد سعيد محمد في جامعة سبها في بلورة توجُّه عام نحو الاشتغالات الحديثة في النقد الأدبي واللغة، أيضًا العديد من الجامعات الليبية الأخرى.
أما اليوم فيمكن القول إننا أمام زخم نقدي حقيقي، يجسد قيمة الحركة النقدية الليبية؛ تجسَّد في دخول النقد المحترف من خارج الجامعة وداخلها ساحة هذه الحركة بفاعلية واقتدار؛ وهو ما جعل من النقد الليبي يمتلك إمكانيات إقامة المشروع النقدي الحقيقي من خلال أصوات نقدية، لا يمكن إغفال دورها في إبراز المشروع النقدي المنفتح على المدارس النقدية المعاصرة، تكلل بظهور العشرات من الرسائل الجامعية التطبيقية في مختلف مجالات الدرس النقدي المعاصر، إضافة إلى جيل واعد من الباحثين في مجال الدراسات العليا الذين يمتلكون الرغبة الحقيقية في الإسهام في تكوين هذا المشروع، والتأسيس له. ولا يمكن في هذا الصدد إغفال ما يقوم به عدد من الباحثين الذين يحملون مشعل الحركة النقدية المنفتحة على مرجعيات نقدية معاصرة، على شاكلة النشاط الذي يقوم به عبدالحكيم المالكي، وعماد خالد، ونوارة عقيلة..
واختتم «الأشلم» حديثه قائلًا: كما لا بد من الإشارة إلى الجهود المثمرة التي بدأت في التبلور من خلال الاهتمام بتأسيس الصحافة الإلكترونية، واستغلال مواقع التواصل الاجتماعي بغية تفعيل المشهد النقدي، وخلق منصات للنقاش والحوار، وتبادل الأفكار والمصادر، متجسدًا في ظهور ما عرف بالمختبرات النقدية الإلكترونية، على شاكلة المختبر النقدي بمصراتة، والمختبر النقدي بجامعة عمر المختار بمدينة البيضاء، إضافة إلى ما سبق مثل مختبر السيميائيات في مدينة بنغازي؛ وهو ما يبشر بانفتاح أكبر للنقد الليبي.
قصص الليبيين واقع شعبي وكم أفكار وعادات
أما ظهور القصة القصيرة وتعاطي المبدعين الليبيين معها فقد سبق قليلًا الحركة النقدية التي تحدثنا عنها أعلاه؛ إذ بدأت القصة الليبية في الصحافة منذ ثلاثينيات القرن الماضي. وهو ما يؤكده رئيس المختبر النقدي في مصراتة الناقد «عبدالحكيم المالكي»: عبر كتابات وهبي البوري الذي نشر قصصه في مجلة ليبيا المصورة سنة 1936م، ثم استمر ينشر القصص في الصحافة حتى كان صدور أول مجموعة مطبوعة لعبد القادر أبوهروس سنة 1957م «نفوس حائرة» عن دار الفرجاني بطرابلس.
وقال «المالكي»: ثم أصدرت زعيمة الباروني «القصص القومي» 1958م، كما أصدر عبدالله القويري مجموعته الأولى «حياتهم» 1960م؛ ليكتب بعدها ثمانية مجاميع قصصية أخرى. وقد تميز القويري بكتاباته الفكرية التأملية.
ومن جيل الرواد الذين كتبوا في العديد من المجالات، كالتاريخ والتحقيق والثقافة، علي مصطفى المصراتي الذي أصدر مجموعته الأولى سنة 1963، ثم توالت المجاميع؛ ليصدر عشرة مجاميع قصصية، تميز فيها برصده المجتمعات الشعبية.
وفي خمسينيات القرن الماضي ظهرت الكتابات القصصية في الصحف لبشير الهاشمي، وخليفة التكبالي الذي فازت مجموعته القصصية «تمرد» بالترتيب الثاني في مسابقة اللجنة العليل للآداب، كما طُبعت بعد وفاته بأيام. وقد تميزت كتابته بالدخول المباشر للقصة، والعمل على تصوير الواقع المعاش. أما بشير الهاشمي فأصدر (الناس والدنيا, أحزان عمي الدوكالي والأصابع الصغيرة المحترقة), ثم اتجه بعد ذلك للكتابة النقدية والثقافية. وتميز سرد الهاشمي بحضور المدينة والبحر مع كم من الأفكار والعادات الاجتماعية، ورصد لهموم الشباب في ذلك الزمن، كما كانت بعض نصوصه مميزة بشكل كبير من خلال تقنيات سردية نادرة في ذلك الوقت، منها قصة «مبروكة» التي استخدم فيها العديد من الحواس غير البصرية في سرده التصويري. ومنذ الستينيات كتب كامل المقهور العديد من القصص ليؤسس بذلك ما يمكن تسميته القصة القصيرة الواقعية؛ إذ تميز في قصصه بتصوير الواقع الشعبي، والقدرة على رسم هواجس الشخصيات، كما كان يستخدم اللهجة المحلية للحوار أحيانًا مقتربًا بذلك من وعي الشخصية. أصدر (14 قصة من مدينتي) 1965م, ثم المجموعات (الأمس المشنوق، حكايات من المدينة البيضاء ويا سمي صبي المي).
وفي الستينيات أيضًا ظهرت كتابات أحمد إبراهيم الفقيه الذي برع فيما بعد في كتابة الرواية. أصدر «البحر لا ماء فيه» سنة 1966م, تلاها سبع مجموعات قصصية.
أما يوسف الشريف فأصدر «الجدار» سنة 1966م, تلاها (الأقدام العارية, وضمير الغائب).
وهنا تجدر الإشارة إلى أن أغلب كتّاب الرواية كتبوا القصة أيضًا, فكتبها إبراهيم الكوني الذي بدأ بالقصة؛ إذ أصدر سنة 1974م مجموعته القصصية الأولى (الصلاة خارج نطاق الأوقات الخمسة). وكذلك خليفة حسين مصطفى وأحمد نصر. وكان من الذين برعوا في كتاباتها بلغتهم الخاصة خليفة الفاخري الذي دمج في بعض قصصه بين لغة المقال ولغة القصة (موسم الحكايات).
أما في السبعينيات فظهرت مجموعات قصصية لمحمد الشويهدي، من بينها: «أقوال شاهد عيان، وأحزان اليوم الواحد». وكتب محمد المسلاتي نصوصًا مختلفة عن السائد من خلال لغتها ومجتمعها الذي تغطيه، كان أولها «الضجيج». كما اصدر حسين نصيب المالكي مجموعته القصصية «مقبولة».
أساطير المكان وفواعل غير إنسية لغة القاصين
وتابع: ومن أهم الأسماء في القصة القصيرة الليبية منذ أواخر التسعينيات أحمد يوسف عقيلة الذي استطاع أن يكتب حول فضاء الجبل الأخضر وأساطير المكان وثقافة المجتمع في لغة منتقاة وقدرة مميزة على الترميز.. وصدر له «الخيول البيض وعناكب الزوايا العليا». كما كتب محمد الزنتاني نصوصًا قصصية شديدة الخصوصية، ولعل من أهم ما يميزها استخدامه بدل الشخصيات (أحيانًا) لفواعل غير إنسية، مثل القط أو السمك مستخدمًا أسلوبًا سرديًّا، يتناوب فيه الوصف والسرد، يشبه طريقة مدرسة «آلان روب غرييه». كما كتب جمعة الفاخري القصة القصيرة، وأصدر العديد من المجاميع القصصية القصيرة، ثم تحول للقصة القصيرة جدًّا، وبرع فيها. كما أصدر عوض الشاعري «طقوس العتمة»، كذلك طاهر بن طاهر صدر له «غصائص» راصدًا فيها همَّ الليبي ذلك الزمن (2009م) مع رمزية في اللغة وشجاعة في الطرح. أما آمال العيادي ذات اللغة الخاصة والبعد النسوي المميز فأصدرت «بقع ظامئة في حضني»، وصدر لرحاب شنيب «الفتسان الأبيض». كما كتب الروائيون الجدد «بعد الألفية الثانية» الرواية والقصة، منهم محمد الأصفر بمجمعته «حجر رشيد» التي تميزت بفواعل خاصة غير بشرية مثل قصة «الجورب».
«السعداوي» تجربة ليبيا الإعجازية المتأبية
وتطرق «المالكي» خلال حديثه إلى «الثقافية» إلى تجربة مؤكدًا أنها تعد من أكثر التجارب دلالة على قدرة الإنسان على مقاومة المرض والعجز بالكتابة، هي تجربة «عبدالله السعداوي» الذي حدث له شلل شامل لدرجة أن خروج الهواء زفيرًا كان يخرج عن طريق الآلة، ولم يمنعه ذلك من إصدار مجموعته «عودة الديناصور», وديوانه الشعري «زهرة الصبار», ونصوصه السيرية «قريبًا من التراب». مشيرًا إلى رأي الدكتور محمد مليطان حول تجربته: «عبد الله السعداوي كونته المراحل، وتكون خلالها، وصقلته التجربة الذاتية، والاحتكاك بالأدباء والمبدعين العرب، خاصة في دمشق التي ارتاد صالوناتها الأدبية - زمن عمله هناك - لكنه لم يقدم نفسه كما يفعل الآخرون، فلم يسعَ السعداوي إلى وسائل الإعلام ومنابر المهرجانات، بل ظل عصيًّا متأبيًّا».
الرواية بدأت في ليبيا عام 1961 في (اعترافات إنسان) لسيالة
وحول الحركة الرواية ونشأتها في ليبيا واتجاهاتها وصولًا للعهد الحديث أكد رئيس المختبر النقدي في مصراتة الناقد «عبدالحكيم المالكي» أنها بدأت كذلك في مطلع الستينيات من خلال رواية «اعترافات إنسان» للكاتب «محمد فريد سيالة» سنة (1961م)، وكان عددها في الستينيات أربع روايات فقط، غلب على بعضها الطابع التاريخي. ومع بداية السبعينيات صدرت سبع عشرة رواية، كان معظمها في منتصف العقد الأول. لافتًا إلى ما رصده الدكتور أحمد الشيلابي بأنه قد يكون توقُّف الكتابة تقريبًا في منتصف عقد السبعينيات الثاني للتحولات السياسية التي كانت تشهدها ليبيا آنذاك، حتى أصدر سنة 1972 صادق النيهوم روايته المهمة على مستوى التجربة الليبية (من مكة إلى هنا). كما أصدر محمد القمودي العديد من الأعمال الروائية، تنوعت بين البُعدين: التاريخي، والاجتماعي المشوب بالبُعد العاطفي. كما أصدر أحمد نصر (وميض في جدار الليل, السهل والقرية التي كانت). كما كتبت مرضية النعاس روايتَيْها: «شيء من الدفء، والمظروف الأزرق».
واستدرك «المالكي»: لكن تظل التجارب الروائية الأكثر حضورًا واستمرارًا منذ نهاية السبعينيات تجارب إبراهيم الكوني وخليفة حسين مصطفى، ثم أحمد إبراهيم الفقيه، ويضاف إليهم أيضًا صالح السنوسي الذي صدر له (متى يفيض الوادي)، كما شهدت تجربته الروائية تحولات فنية وموضوعية، خاصة مع روايته (آخر سيرة بني هلال, حلق الريح). كما أصدر خليفة حسين مصطفى العديد من الروايات، أهمها (ليالي نجمة) المكونة من جزأين، التي وصفها الأديب والناقد يوسف الشريف بأنها أول رواية ليبية مدينية اجتماعية، تحدث فيها عن مجتمع مدينة طرابلس، والمنطقة القديمة فيها تحديدًا. كما أصدر (متاهة الجسد, الأرامل والولي الأخير)، كما أصدرت نادرة العويتي روايتها (المرآة التي استنطقت الطبيعة).
(الكوني) أخرج ليبيا من قوقعتها للعالمية
كذلك من التجارب الليبية المهمة في مجال الرواية تجربة أحمد إبراهيم الفقيه الذي أصدر روايته الأولى «حقول الرماد»، ثم ثلاثيته، كما أصدر عمله الروائي الملحمي (خرائط الروح) المكون من اثني عشر جزءًا. ولعل آخر أعماله المميزة روايته «خفايا القصر المسحور» التي صور فيها قصة متخيلة، نحتت في عمق التاريخ والثقافة والعلاقات الاجتماعية في مصر.
وفي الثمانينيات كان ظهور تجربة إبراهيم الكوني -أيضًا- الذي كان قد كتب العديد من الكتب التي تنوعت بين القصة والمقالة منذ السبعينيات؛ ليكتب ملحمته الأولى «خماسية الخسوف» المكونة من أربعة أجزاء، ثم أصدر الثنائية المهمة المجوس التي تشكل فيها بشكل بارز موضوع وتقنيات كتابته، وصار فيها عالمه الروائي الصحراوي المتخيل واقعًا.
ويرى أ. إبراهيم حميدان أن «إبراهيم الكوني قد أخرج الرواية الليبية من قوقعتها المحلية، ودفع بها؛ لتكون رافداً جديداً للرواية العربية، لا بل إنه وضع اسم ليبيا في أشهر المنتديات الأدبية العالمية من خلال ما حظيت به رواياته من ترجمات في مختلف اللغات».
استمر الكوني يكتب؛ إذ أصدر روايات قصيرة نسبيًّا، مثل «نزيف الحجر والتبر»، وكتب سلاسل روائية عديدة، واستمر ينتج العديد من الروايات والنصوص المجاورة للسرد، وصلت إلى ما يقارب الثمانين عملاً بين الرواية والنصوص الأخرى.
وأضاف «المالكي»: أما في التسعينيات فقد أصدر محمد فركاش الحداد العديد من الروايات، منها «جحف العقاب» الذي ضمّ رباعية المواطن صالح، وأصدر عبد الرسول العريبي «تلك الليلة, أبواب الموت السبعة». ومع بدايات العقد الأول من الألفية الثالثة كان هناك توسع وتنوع في التجارب الروائية؛ إذ أصدر محمد الأصفر العديد من الروايات في زمن قياسي، بدأها برواية «المداسة»، ثم «تقودني نجمة»، واستمر في ممارسة فعل من التجريب خاص في «نواح الريق, سرة الكون, شرمولة, وزارة الأحلام». وكانت موضوعاته تتناول هموم الذات وبساطة الإنسان الكادح أو (بوهيميته) أحيانًا، مع توظيف لغة ساخرة خاصة وشعرية في السرد مميزة.. كما كانت روايات الأصفر متنا يستحضر ضمنه تجارب شعرية مختلفة.
«الخوف أبقاني حيًّا» أسست للأبعاد النفسية عند الروائيين
وبيَّن أن عبدالله الغزال أعاد للشخصية الروائية أهميتها من خلال روايته «التابوت» ذات البناء المحكم، بعدها أصدر «القوقعة»، ثم رواية «الخوف أبقاني حيًّا» التي تعد من أروع ما كُتب في السرد الليبي والعربي، وأسس للون جديد من الكتابة ذات البُعد النفسي العميق لخفايا وتفاصيل النفس.
يقول سعيد يقطين عن تجربة الغزال في مقدمة روايته القوقعة: عبد الله الغزال روائي متمكن، وله قدرة كبيرة على خلق عوالم روائية تمتحمن واقع التجربة المعيشة، وعنده إمكانات مذهلة للتعبير عن فضاءات جديدة ومتنوعة. إنه إغناء متميز للتجربة السردية العربية في ليبيا، ومساهمة غنية في المشهد الروائي العربي. لنقرأ هذه الرواية؛ لنقف بجلاء على ما تخزنه هذه «القوقعة»، وما تختزله من عوالم شديدة الصلة بالواقع، ووثيقة الصلة بالخيال المبدع.
أما محمد العريشية فكتب روايته المتميزة «الأيام الأخيرة في علاج» التي اعتمد فيها نسقًا من التداخل بين الغرائبي والساخر. فيما أصدرت رزان المغربي «الهجرة على مدار الحمل» التي انتقلت فيها بين الماضي زمن هجرة الليبيين لسوريا من وطأة الحرب والحاضر ضمن بُعد نسوي عاطفي، ورواية أخرى «نساء الريح». كما يمكن أن نجد من الروايات ذات البُعد السياسي في «المولد» لأمين مازن التي كانت تحكي عن أحداث سجن سنة 1973م. بينما أصدرت نجوى شتوان نصها المميز «وبر الأحصنة» المختلف المنطلق من رؤية خاصة، زاوجت فيها بين البُعد الساخر والثقافة، وكتبت العديد من الكتب، منها النص المسرحي، والشعر، لعل آخرها روايتها «زرائب العبيد».
فيما أصدرت وفاء البوعيسي «للجوع وجوه أخرى»، وروايات عدة بعدها؛ إذ كانت تمتلك رؤية خاصة مختلفة لقضايا دقيقة؛ وهو ما سبب جدلاً حول أعمالها. بينما يوسف إبراهيم كتب رواية ذات بُعد فنتازي «ماريش في الزمن الغابر»، ونجد الرواية التجريبية «منساد» للصديق بودوارة، وللدكتور سليمان زيدان الرواية الاجتماعية «أوزار»، ولمنصور أبوشناف القادم من المسرح والنقد الفني «العلكة».
كذلك نجد رواية الناقد والشاعر عبدالحفيظ العابد (ماءان) التي رصد فيها من وعي خاص رؤية في مجتمع السبعينيات والثقافة الليبية.
المرآة الليبية تنحى بالرواية لأرضية جديدة
واختتم «المالكي» حديثه بالتشديد على أن رواية المرأة الليبية بدأت تشهد منحى جديدًا، خاصة مع لغة آمال العيادي في روايتها «قسامي»، وموضوعاتها وشعريتها الخاصة؛ إذ أخذت أيضًا تؤسس لها أرضية رصينة مع تجربة عائشة الأصفر التي أصدرت العديد من الروايات المميزة، آخرها «النص الناقص» التي انطلقت فيها من وعي فتاة مأزومة، رصدت حياتها وملابسات أزمتها, وكأن راويها يتكلم من وعي ذكر عابث. فهذه الرواية كانت رصدًا لتاريخ الجنوب الليبي عمومًا، ومنطقة سبها خصوصًا, كما رصدت هجرة الأفارقة شمالاً عبر لغة مميزة وسرد غرائبي. كما ظهرت بعدها تجارب روائية جديدة مميزة، منها رواية «قصيل» لعائشة إبراهيم التي تناولت زمن السبعينيات في مدينتها بني وليد عبر لوحات تصويرية مميزة.