د. عبدالحق عزوزي
شاركت في الأيام الماضية في ملتقى فكري متميز عن الإرهاب والتطرف، في جامعة بوردو الفرنسية للعلوم الإنسانية والاجتماعية؛ وقد أشرت في تدخلي إلى أن هناك قناعة في العديد من الدول الغربية، وحتى في بعض الدول العربية أن السجون أضحت جامعات إرهابية فعلية، حيث يلعب الراديكاليون المخضرمون دور الأساتذة، ويكون فيها السجناء طلابا؛ ومعنى هذا الكلام أن السجون بدورها لا تسلم من مراض الذهان والمتطرفين وأصحاب الغلو وأن وضع مراقبات دائمة لتحصين من سلموا من هاته المصيبة الآزفة مسألة مصيرية... وبمعنى آخر فإنه لا يكفي استئصال الإرهابيين والسفاكين الملوثة عقولهم وقلوبهم، محبي الدماء وقطع الرؤوس فحسب، بل لا بد من التأثير على عقول البشر حتى في السجون ولا بد من تدخل الدول لتنظيم الوعظ والإرشاد المبنيين على الوسطية والاعتدال؛ وهنا دور العلماء الذين يجنب أن يجندوا لهذا العمل لكي لا يتركوا الساحة فارغة يملؤها أصحاب الغلو والمتطرفون... وفي رأيي حتى هؤلاء المتطرفين يجب مناظرتهم في السجون من طرف علماء أكفاء... فالإرهابيون عقولهم مشوشة، وقادتهم يقدمون فهمهم من منهج الدعاية لا العلم، وبأسلوب الإلحاح لا الإقناع، وبطريق التوكيد دون ما تدليل أو نقاش أو نقد. وهم لا يسمحون لأنفسهم -حتى لا يهتزوا، ولا لأتباعهم- حتى لا يهربوا، ولا لخصومهم - حتى لا ينتصروا، بأن يناقشوا هذا الفهم بالعقل والمنطق...
وقد أشرت في النقاش بعد تدخلات المشاركين وعلى رأسها التدخل القيم لسعادة د. جمال سند السويدي عن كتابه السراب، إلى أن العامل الانتخابي وضرورة حشد عدد أكبر من أصوات الناخبين هو السبب الذي جعل الجسم الأوروبي مريضًا بالصور النمطية عن الإسلام والمسلمين، وهو الذي يغذي في عقول الأوروبيين مقولة وجود الهوية والثقافة الوطنية في خطر أو ما يشار إليه بالهوية المرجعية، وهاته الهوية يشعل فتيلها سياسيو الأحزاب كلما دعت الضرورة إلى ذلك على قبيل ما وقع في تسعينات القرن الماضي عندما زحف آلاف المهاجرين من يوغوسلافيا السابقة وطلبوا اللجوء السياسي في البلد، مما أثار زوبعة من الاحتجاجات السياسية؛ ولكن خلافا لما وقع في تلك الفترة، فإن السياسيين الأوروبيين كالألمان مثلا أضافوا خاصية جديدة في دفاعهم عن الهوية والمرجعية الوطنية، وهو كون ثقافة المجتمع الألماني ثقافة»يهودية - مسيحية»، وقد أحلت الطلبة الفرنسيين الذين كانوا حاضرين إلى قراءة كتب ومقالات الفيلسوف الألماني هابرماس الذي تساءل كم مرة عن نسيان السياسيين الجدد لما وقع لليهود في ألمانيا!
وفي نفس النقاش الهادف تطرقت إلى ثورة الأجيال في دول كفرنسا: فالجيل الثاني والثالث من المهاجرين وبالأخص الجيل الثاني من الجالية المسلمة في الخارج يثور على الإرث الثقافي-الديني الموروث عن آبائهم، فيحدثون قطيعة شاملة معها وهي التي تربوا عليها في البيوتات، وليس عندهم مشكلة مع الحضارة الغربية، لأنهم يتحدثون الفرنسية أفضل من آبائهم، والبعض منهم كانوا لا يمارسون الشعائر الدينية بتفان ومواظبة، كما أن البعض الآخر قضى جزءًا من حياته في السجون، ثم بعد عشية وضحاها أضحوا راديكاليين وأصبحوا يتبنون تصورًا دينيًّا يلغي كل شيء، يدعون أنهم يحتكرون في ساعات قليلة الدين الحق، ويزعمون أنهم وحدهم على جادة الإيمان ليرموا غيرهم باتباع الباطل ويدعون أنهم كافرون بالله ملحدون بالدين، وأن الجهاد جائز في كل مكان وضد كل من يدخل في إطار الجاهلية الأولى والكفر عندهم.
كما أن السبب الأصيل في هذا كله هو أن الموروث الثقافي الديني الوسطي المعتدل الذي حمله مهاجرو الجيل الأول لم يورثوه لأبنائهم (أي من الجيل الثاني) وأنا أخالف المفكر الفرنسي الكبير أوليفيي روا الذي له كتابات معتمدة، عندما وصف أبناء الجيل الثالث من أنهم معصومون من الفيروس الذي أصاب آباءهم (من الجيل الثاني) لأن نفس المسببات موجودة ونفس الأرضية التي لوثت أفئدتهم ما زالت قائمة، كما أن أبناء الجيل الثاني سيلتقون مع أبنائهم في هذا الانشقاق الثقافي والانشقاق الجيلي والانشقاق السياسي، فالراديكالية هي المحرك وهي التي تتماشى في الأخير مع صميم التلوث الفكري الذي أصاب هاته الشريحة من الناس، وهي قلة قليلة جديدة ولا تعني ألبتة راديكالية الساكنة المسلمة المقيمة في فرنسا والدول الغربية.