د. عيد بن مسعود الجهني
اللجوء إلى التحكيم يتم باتفاق أطراف النزاع على عرض منازعاتهم على التحكيم، والاتفاق قد يكون شرطاً من شروط العقد الأصلي المبرم بين الأطراف وقد يكون في صورة مشارطة تحكيم يتم إبرامها بشكل مستقل عن العقد الأصلي ويطلق على الصورتين تسمية اتفاق التحكيم.
وهذا النوع من صور التحكيم يطلق عليه «توافق الإرادة الخاصة على عرض نزاع بينهم (مشارطة) أو محتمل على فرد أو أفراد عاديين يختارونهم أو يبينوا طريقة اختيارهم للفصل فيه وفقاً لقواعد القانون أو وفقاً لقواعد العدالة دون عرضه على قضاء الدولة.
إذن التحكيم الاختياري يقوم على إرادة الطرفين، فمبدأ سلطان الإرادة يعد بمثابة الأساس الذي يستند إليه التحكيم، ولذا لابد من اتفاق الأطراف المتنازعة على التحكيم ويترتب على ذلك أن القرار الذي يصدر من المحكمة أو المحكمين يعد في الواقع انعكاساً لهذا الاتفاق ويستمد قوته التنفيذية منه وتنسحب طبيعة التحكيم التعاقدية إلى هذا القرار ويصبح اتفاق التحكيم كل لا يتجزأ.
ومن ناحية أخرى، فالتحكيم أساسه إرادة الدولة أيضاً إذ يكون لها سلطة إقرار ما اتفقت عليه إرادة المتعاقدين إذا قرروا اللجوء إلى التحكيم بدلاً من اللجوء إلى القاضي المختص الذي عينته الدولة للفصل في المنازعات ورد الحقوق لاصطحابها.
ويعتبر شرط التحكيم الأكثر شيوعاً في التطبيق من الناحية العملية لأنه يبرم في وقت تسوده روح الود، بعكس مشارطة التحكيم التي تبرم بعد وقوع النزاع مما يصعب معه إبرام اتفاق التحكيم، وشرط التحكيم أهم مصدر من مصادر التحكيم التجاري سواء الداخلي أو الدولي، فمعظم عقود التجارة الدولية أصبحت اليوم تتضمن شرطاً تحكيمياً ويصبح الاختصاص في شأن النزاع عن طريق محكم أو محكمين أو الإحالة إلى النظم الخاصة بهيئة تحكيمية معينة، ويقصد باتفاق التحكيم وطبقاً للاتفاقية الأوروبية للتحكيم التجاري الدولي الموقعة في جنيف بتاريخ 21 أبريل 1961م كل شرط بالتحكيم يكون مدرجاً في عقد وكل اتفاق قائم بذاته يلجأ الطرفان طبقاً له إلى التحكيم، شريطة أن يكون كلاهما موقعاً عليه منهما أو متضمناً رسائلهما أو برقياتهما أو غير ذلك من وسائل الاتصال بينهما.
وباتساع نطاق التجارة الدولية وازدياد أهميتها في العصر الحديث التي تتجلى مظاهرها في موانئ كل دولة، حيث تموج بالسفن والمراكب والحوايا تصديراً أو استيراداً، وما يمثله ذلك بالنسبة للعلاقات التي تنشأ نتيجة لتطور التجارة الدولية وما يثور من منازعات عن العقود الخاصة بالتجارة الدولية (شركات أو مؤسسات أو أفراد) وغالباً ما تنص هذه العقود على اللجوء إلى التحكيم عند الخلاف، وذلك لسرعة الفصل وسهولة الإجراءات، وللخروج من كثير من المآزق، وعلى الأخص الخضوع لنظام قانوني معين ولعل أكبر سبب للجوء إلى التحكيم أنه في حال الخضوع إلى قضاء دولة معينة ما لوحظ من أن القاضي قد يغلب في بعض الأحيان المصلحة الوطنية، بغض النظر عن البحث عن العدالة المجردة من أي اعتبار آخر.
هذا بالإضافة إلى التطور الاقتصادي والسياسي للدولة وما ظهر من امتيازات للبترول في كثير من الدول، وقيام شركات ذات رؤوس أموال ضخمة للتنقيب واستغلال هذه الثروات، أن أصبحت ظاهرة اللجوء إلى التحكيم في هذه العقود قاعدة مستقرة، ولذا فإنه قلما يخلو عقد من عقود التجارة الدولية من نص على التحكيم سواء كان ذلك باختيار هيئة تحكيم معينة أو ترك ذلك، لاختياره عند نشوء الحاجة إليه.
وقد ذهب الفقه إلى أن التحكيم الدولي يتيح للخصم الذي ينتمي لجنسية تختلف عن جنسية خصمه، أن يختار قاضيه، وهو يفضل محكماً تكون آراؤه قريبة من آرائه، حيث يتفهم موقفه أكثر من القاضي الرسمي بالدولة التي ينتمي لها -وهو عامل لا يكفل الاطمئنان للخصم الأجنبي، وكذلك يكون القانون الموضوعي الذي يحكم النزاع في الغالب- هو العرف التجاري الدولي، بعيداً عن القوانين الوطنية التي ينتمي لها الخصوم، وهذا هو التطبيق الحديث للقانون التجاري الدولي حيث تطبق هيئات التحكيم في المنازعات التجارية الدولية مجموعة القواعد العرفية المستقرة عالميا، والتي لا خلاف عليها دون أعمال القواعد القانونية الوطنية لأية دولة، حيث تختلف هذه القوانين فيما بينها اختلافاً بيناً في قواعدها التفصيلية.
ولقد أخذت اتفاقية نيويورك بشأن الاعتراف وتنفيذ أحكام المحكمين الأجنبية 1958م بنفس القاعدة، فالمادة الثانية قيدت الدول المتعاقدة -كل في نطاق إقليمها وفي مجال اعترافها بأحكام المحكمين وتنفيذها- بالاتفاق الكتابي الذي يتعهد الأطراف فيه بعرض نزاعاتهم ما كان منها قائماً أو محتملاً على التحكيم كلما كان موضوعها مما يجوز التحكيم فيه بشرط نشوئها على علاقة قانونية محددة ولو لم يكن العقد مصدرا لها.
وقد نصت اتفاقية بنما للتحكيم التجاري الدولي الخاصة بالدول الأمريكية في مادتيها الأولى والثانية على صحة كل اتفاق يتعهد بمقتضاه طرفان أو أكثر بعرض نزاعاتهم الحالية -أو ما يظهر مستقبلاً منها- على محكمين يعينون بالكيفية التي يبينها أطراف النزاع ما لم يفوضوا في ذلك طرفاً ثالثاً وفي هذا النوع يكون للخصوم الخيار بين الالتجاء إلى القضاء العادي أو طرح النزاع على التحكيم.