الرياض - خاص بـ«الجزيرة»:
من الصفات التي ذمتها الشريعة الإسلامية «البخل» الذي يدل على قلة العقل وسوء التدبير، وهو أصل لنقائض كثيرة، ويدعو إلى خصال ذميمة.
والبخل ينقص قدر الإنسان ولا يزيد رزقه، وهو محروم في الدنيا مؤاخذ في الآخرة، وهو مكروه من الله -عزّ وجلّ- مبغوض من الناس.
ولاشك أن البخل عاهة في النفس والسلوك، وليس مقتصراً على البخل المادي، بل العاطفي الذي يعد أشد ألماً باعتباره سلوكاً قد يؤدي إلى انهيار الأسرة.
«الجزيرة» طرحت القضية على عدد من المختصين في العلوم الشرعية والتربوية والاجتماعية وغيرهم ليتحدثوا عن هذه الصفة السلوكية السيئة.. فماذا قالوا..؟:
بخل المشاعر
يوضح الشيخ الداعية عائض بن محمد العصيمي أن العرب تكره البخيل، وتغفر كل زلة ولكل هفوة إلا للبخيل لا تغفر له أيّ زلة؛ ولا ترى حسناته وإنجازاته مهما تكن!
عرف الإمام ابن القيم (البخيل) فقال رحمه الله: «البخيلُ فقيرٌ لا يُؤجْر على فقره». البخل ليس من الإيمان قال صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه»رواه البخاري.
والبخل ليس بالمال فقط، بخيل المال تبرأ جيبه من ماله؛ لكن هناك منهم أبخل من بخلاء المال وأشح؛ أولئك الذين يبخلون بحسن أخلاقهم مع الناس، بخلاء الأخلاق الحسنة لا المال؛ بخلاء الابتسامة والبشاشة لا تراه إلا عابساً متجهماً بوجهه مع الجميع؛ بخيل في مشاعره وحبه لمن هم حوله فالجميع ينفر منه ومن معاملته الغليظة، بخيل بالكلمة الطيبة والقول الحسن، بخيل حتى مع أهله زوجته وأولاده، بل مع والديه، فلا تجد لهم احتراماً ولا تقديراً ولا حسناً من كلام ومعاملة.. والبخل رذيلة عواقبها وخيمة وأثارها سيئة في الحياة والممات، ومن العجائب والعجائب جمة ٌ: أنك ترى أثر بخل البخيل السيئ على أهله وأولاده.. تقول أم البنين أخت عمر بن الخطاب: « أف للبخل، لوكان طريقاً ما سلكته، ولو كان ثوباً ما لبسته، ولو كان سراجاً ما استضأت به».
ويشدد د. العصيمي على أن الناس لا تريد منك مالاً ولا طعاماً لا يريدون منك إلا حسن خلق وحسن معشر ورقي أخلاق واحترام، وأنه قد تصبر الزوجة على ظلم الزوج أو على فساده وتسعى جاهده في إصلاحه فيصلح، إلا البخيل لا تستطيع أن تعيش معه وأن تصبر على بخله، وقد يفرح البخيل بما جمع ومنع، لكنه ما علم أن ما جمع سيكون لورثته من بعد موته فما هو إلا جامع مال ويوم القيامة يطوق بعقد على رقبته قال تعالى: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (180) سورة آل عمران.
ويفرق العصيمي بين البخل والشح قائلاً: البخيل يبخل على غيره لكنه كريم على نفسه؛ وأما الشحيح فيبخل على نفسه وعلى غيره، وقد كان من دعائه صلى الله عليه وسلم: « اللهم إني أعوذ بك من البخل ومن الجبن وأعوذ بك أن أرد إلى أرذل العمر» رواه النسائي.
الإمساك والتقتير
ويبدأ د. زيد بن محمد الرماني أستاذ الاقتصاد الإسلامي بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بطرح عدة تساؤلات قائلاً: ما الذي يدفع الفرد إلى أن يطلب شظفَ العيش، وقساوةَ المعيشة على لينها وحلاوتها، بحيث يُصبِح مأكلُه غثًّا، ومشربُه كريهًا، وثيابُه باليةً، وحياتُه خشنةً قاسيةً؟!.. هل لأنه من الفقراء المحتاجين إلى المال أم لأنه يعيش في نسق من الحياة الضاغطة التي فرضت عليه البخل بالمال؟ أم لأنه من البخلاء الذين لا يرتبط سلوكهم بالفقر أو الغنى؟..
فلماذا إذًا يبخل الإنسان؟.. وهل يقتصر البخل على الجوانب المادية من حيث إمساك المال، أم أنه يشمل الكف والمنع والإمساك في جوانب الحياة النفسية والاجتماعية كافة؟.
إن البخل هو إمساك المال ومنعه وتجميعه واكتنازه وحفظه في مورد لا ينبغي إمساكه فيه، فهو الاحتفاظ بالمال في صورة سيولة نقدية معطَّلة غير مستغلَّة أو متداولة، وهو الإمساك والتقتير عمَّا يحسن السخاء فيه، وهو ضد الإنفاق والجود والكرم، وعدول عن الإنفاق في الحاضر والمستقبل.
فالبخل إذًا يرتبط بمن يملِكون المال، فلا يُقال: إن فلانًا بخيلٌ إلا وهو ذو مال، وهو صفة تبعد عن الفقراء المحتاجين إلى المال؛ ذلك لأن الفقير ليس لديه ما يكنزه أو يمنعه؛ كي يُطلق عليه بخيل، فالبخيل هو من يملك المال، ولديه قدرة على الإنفاق؛ لكنه يُعطِّل عن عمد وقصد تلك القدرةَ، فيمتنع عن الإنفاق، وعادة ما يرتبط البخل بالذمِّ والقُبْح، والبخل سلوك إنساني مُعقَّد ومتشابك يتكوَّن من العديد من الانفعالات والدوافع النفسية والاجتماعية والاقتصادية، وهو سلوك قد يُرينا كيف أن هوس الثراء يدفع الفرد إلى الرغبة العارمة في امتلاك المال، حتى لو كان ذلك على حساب الذات التي تمرَّدَتْ على كل الرغبات والملذَّات في سبيل رغبة واحدة هي المال، ولذَّة واحدة هي جمع المال واكتنازه.
كذلك البخل هو انحراف في غريزة المحافظة على البقاء، وهو الصورة المرضية من الرغبة في التملُّك والادِّخار؛ ذلك أن الأسوياء من الناس قد يميلون إلى سلوك التملُّك والادِّخار والمحافظة على بقائهم بهدف الشعور بالأمن في المستقبل؛ لكن البخلاء يتجاوزون بسلوكياتهم الهدف من المحافظة على البقاء والتملُّك والادِّخار والاقتصاد والتوفير في شكل من العدول الدائم عن الإنفاق في الحاضر والمستقبل، والبخل لا يقف عند الجوانب المادية من حيث إمساك المال ومنعه؛ إنما قد يمتدُّ إلى جوانب الحياة النفسية والاجتماعية كافة، فلا يرتبط بجانب واحد من الشخصية، بل ربما يشمل الشخصية كلها.
أعظم البخل
ويبين الدكتور عبدالعزيز بن حمود المشيقح أستاذ علم الاجتماع بجامعة القصيم أن البخل أشد الخصال الذميمة والمكروهة لأنها تمنع الفرد من البذل والعطاء. كونها ليست من الرجولة ولا من شيمها وقد أستعاذ نبينا عليه الصلاة والسلام من البخل وتعوّذ منه فقال: «اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال».
ألا وإن من أعظم البخل بخل الإنسان على نفسه بفعل الخيرات وكسب الحسنات، وبما أن النفع المتعدي وخدمة الناس من أجل الأعمال سواء بالصدقات أو التبرعات أو الجاه، فقد حرمه كثير من الناس حتى بجاهه ومنصبه لذا يحرم الخير ولا يوفق بتسخير هذا الجاه لمحتاجه، علماً أن الله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه، وعن ابن عمر -رضي الله عنهما-أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم قال: المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة؛ متفق عليه. فهذا الحديث كله منافٍ للبخل وأهله.
فالموفق من وهبه الله بالكرم وخدمة الناس والمحروم من تتطبع بهذه الصفة المذمومة والمقبوحة عند العامة والخاصة، والحمد لله مجتمعنا المسلم بصفة عامة ومجتمعنا السعودي بصفة خاصة تندر فيهم مثل هذه الصفة المذمومة فنراهم مبادرين للخير كرماء الطباع كما هو ديدن دولتهم ببذلها وسخائها مع المجتمعات الإسلامية والعربية.
أرذل الأخلاق
ويشير رجل الأعمال الأستاذ فلاح السبيعي إلى أن صفة البخل تعد من الصفات السيئة التي يمقتها الإسلام والأعراف الاجتماعية، والبخل ليس مقتصراً على المال فقط، بل حتى في العواطف، حيث نجد البعض يبخل بالابتسامة، ومساعدة الناس بجاهه ووجاهته.
ولا شك إن البخل من السلوك الذي تعوذ منه سيد الخلق رسولنا -صلى الله عليه وسلم- حينما قال في دعائه: « اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل والجبن والبخل «.
والبخيل محروم من السعادة، ومبغوض من الناس، وهو خلق مذموم، بل من أرذل الأخلاق الشخصية والاجتماعية، والشح والبخل معناهما متقاربان، وفي الغالب أن من يتصف بهاتين الصفتين تجده مصاباً بداء نفسي، واضطرابات سلوكية يلاحظها من يتعامل معه.
وحري بالإنسان اكتساب الصفات الحسنة المستمدة من ديننا الحنيف الذي يدل على كل خير وفضيلة، ولأن كل سلوك أو صفة أي كانت خيراً أو شراً فإن الأبناء يقتبسونها من والديهم باعتبارهم قدوة لهم.
أقسى أنواع البخل
وتقول الأستاذة مسفرة بنت إبراهيم الغامدي القائدة التربوية نائب رئيس لجنة التعليم الأهلي بجدة، ومستشار تنمية مستدامة وسفيرة أممي للشراكة الاجتماعية: «اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، والبخل والجبن، وضلع الدين، وغلبة الرجال»، فقد استعاذ سيد الخلق والبشرية نبينا محمد صَل الله عليه وسلم من البخل، فالبخل صفه ذميمة تؤذي صاحبها قبل كل شيء، والبخيل محروم من الاستمتاع بماله ومن حب الناس له، أما البخل بالمال فهو معروف، وأقسى أنواع البخل! البخل بالعواطف حين يبخل الإنسان بمشاعره فتلك مصيبه -والعياذ بالله- والبخل العاطفي ناتج عن ترسبات نفسية تراكمت فكونت شخصية غير متفاعلة مع ذاتها أولاً ثم مع الآخرين متبلدة عن مشاركة من حولها والتعبير عن مشاعرها، ويبدو أنه بمجتمعنا يخجل الإنسان أن يعبر عن عواطفه وأحاسيسه حتى لأقرب الأقربين إليه، لذا لابد من تدارك الأمر ومعالجته بتربية الأبناء على العطاء المعنوي والمادي، وإتاحة الفرصة لهم للتعبير عن مشاعرهم مع الأهل بكل سخاء.
السلوك المرفوض
وتؤكد الأستاذة ابتسام بنت عبدالرحمن الباحوث الرئيس التنفيذي لمجموعة بيت رافال أن البخل سلوك إنساني مرفوض في جميع المجتمعات بكافة أطيافهم الإنسانية، لأنه يناقض أصل تواجد الإنسان في مجتمعات تكافليه تعمر الأرض من خلال قيم الدعم والمساعدة، ولا يقتصر ذلك على سلوك البخل والتقتير المادي بل يمتد إلى كافة إشكاله في العواطف والتشجيع والدعم والنصيحة والاحتواء.. وأكاد أجزم أنه مترابط فمن يبخل بالمادة سيمتد أثره على كافة النواحي السلوكية في شخصيته.
لذلك بغض الإسلام هذا السلوك ونفر منه، وتعوذ منه نبينا وأمرنا أن نتعوذ منه، ولطالما كان هذا السلوك من مكارم الأخلاق التي اشتهر بها العرب، ولما بعث نبينا محمد بن عبدالله قال (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) وأهمها هذا السلوك.
ولا يتسم أيّ أفراد مجتمع به إلا تنامى بينهم التعاضد والمحبة والعطاء والتواصل، وتماسكت نسيج أواصر العلاقات فيما بينهم. لأن العطاء ولو في أبسط صوره لهو مرسول محبة بين الناس، قال نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-: (تهادوا تحابوا) وهذا المنهج الإنساني الرفيع الذي لم يحدد لمن تهدي ولا كيف ولا كمية ولا لجنس ضد آخر ولا لمسلم أو لغيره من الأديان.. إنما عطاء إنساني من أوسع أبوابه.