د.خالد بن صالح المنيف
في عام (1955) وبعد انتهاء الحرب الكورية، ظهر على السطح مسألة حيّرت العلماء، وأدهشت المتخصصين، معضلة استعصت على فهم الكثير، ولغز عجز أولوا النّهى عن حله!
وضع عجيب وحالة جديدة للأسرى الأمريكيين الذين كانوا في السجون الكورية! حيث تمّ أسر زهاء 1000 جنديّ أمريكيّ, ثمّ وضعهم في سجن توافرت فيه جميع المواصفات الدولية والقوانين الأممية من حيث نوعية الخدمة التي تقدّم للسجين، وإكرامه بنوعيات جيدة من الأكل وتقديم أسرّة مناسبة, وكانت العنابر تمتاز بالاتساع فلم يكن ثمة ضيق كعادة السجون، إضافةً إلى أنّ سور السجن لم يكن ذا ارتفاع هائل كباقي السجون، بل كان بارتفاع ربما يمكّن من في السّجن من الهرب!
ولم يكن السجانون يستخدمون أيّ وسيلة من وسائل التعذيب البشعة كالتسهير لأيام، أو تجويع, أو تسليط الكلاب المسعورة, أو الجلد بالسياط؛ لذا لم يكن لهم أيّ محاولات فرار، إضافةً لهذا فقد كانت علاقة السجناء ببعضهم علاقة صداقة مع اختلاف درجاتهم ورتبهم العسكرية، وحتى علاقتهم بسجانيهم كانت علاقة ودية جدًّا!
ولكن المسألة العجيبة التي حيرت الجميع أنّ نسبة الوفيات في السجن كانت أكثر بكثير من غيره من السجون، حتى من تلك التي يشرف عليها عتاة السجّانين وقساة العسكر! وكانت وفاة طبيعية فلا سقم اعتراهم ولا مرض ألمّ بهم ولا وجع أضناهم، ولا حمّى أوهت قواهم؛ حيث إنّ الكثير منهم ينام ليلًا ويستيقظ صباحًا وقد زهقت نفسه! فما السّرّ إذن؟
بعد أن وضعت الحرب أوزارها وأخمد لظاها, واغتفرت الجرائم وأقيلت العثرات اجتهد العلماء لدراسة هذه الظاهرة لكشف سرّها وفكّ عقدها! ومن هؤلاء عالم نفس يدعى (ماير) كان أحد كبار الضباط في الجيش الأمريكيّ الذي استجوب بعض السجانين فلم يقرّ واحد منهم بذنب ولم يعترف بجرم, وبعد تأمّل وجمع للمعلومات وسبر للغور وجد أنّ هناك شيئًا كان يحدث في هذا السجن دون سواه من السجون وهو أمر لا يهجس في خاطر ولا يجول في فكر! حيث قد تعرّض المساجين فيه لنوع مبتكر من الإيذاء، وكان يختصّ بالتأثير على نفسيات المساجين عبر ثلاثة أمور!
1- التحكم في نوعية الأخبار التي تنقل للسجناء، فقد كان ينتقى لهم فقط الأخبار السيئة التي تنهك نفسياتهم وتضعف أرواحهم وتجعلهم يغرقون في مستنقع من التشاؤم وفقدان الأمل, أمّا الأخبار الجيدة فقد حجبت تمامًا عن مسامع السجناء فلا تراهم يسمعون إلّا سيئ الأخبار وأسود الرسائل، وموجع الأحداث.
2- ابتكر السجانون أسلوبًا عجيبًا في التعامل مع هؤلاء السجناء؛ فقد كانوا يجبرونهم على أن يتحدثوا عن زلّاتهم وغدراتهم وخيانتهم ومواقفهم المخزية مع أقاربهم وأصدقائهم على نحو مستمرّ، وعلى رؤوس الأشهاد وفي حضرة جميع من في السجن!
3- ومن الأساليب القذرة التي كان يمارسها السجانون مع السجناء إغراؤهم بوجبة لذيذة أو مشروب فاخر أو سيجارة؛ وذلك مقابل التجسّس على زملائهم، والوشاية بهم دون الإضرار بأحد وهو ما دفع الجميع لأن يمارس هذا الدور السّقيم -التجسّس- كونه لا يضرّ بزملائهم!
لقد سمعت عن صنوف الأساليب والطرق وضروب التعذيب، فلم أر أشدّ مكرًا من هذا الأسلوب وأعظم ضررًا!
ثلاث تقنيات شيطانية غاية في الخسة كانت تسقي السجناء الموت قطرةً قطرةً.. كانت هي السبب في قتل معنويات الجنود، وتحطيمها لدرجة ضرر وصلت للوفاة!
* فالأخبار السيئة والاقتصار عليها كانت تعني أن لا أمل لهم في هذه الحياة فأصبحوا يرون الحياة من منظور أسود قاتم، وهل هناك حياة بدون أمل! فمن يفقد الأمل يفقد كلّ شيء!
* وأمّا إجبارهم على البوح بالمخزيات وسيئ التصرفات ورديء الذكريات باستمرار، فلا شكّ أنه سلوك نكّس أبصارهم، وجرّ عليهم عارًا، ودمّر احترامهم لذواتهم، وأفقدهم معه احترام من حولهم لهم، وتخيّلوا إنسانًا يعيش فاقداً احترامه لنفسه واحترام الآخرين له.. أيّ وهن وضعف سيعتريه؟!
* وأمّا تجسّسهم على زملائهم، فقد كان سلوكًا بشعًا كسر تكراره عزة النفس، وقضى على الكرامة وشوّه الصورة الذاتية عن النفس، فكان واحدهم يرى نفسه لئيمًا حقيرًا لا يرعى صداقة ولا يحفظ عهدًا!
وقد تكفّلت تلك الوسائل بالقضاء على رغباتهم في الحياة، حيث سرى الموت في أرواحهم شيئًا فشيئًا؛ فماتت أرواحهم ثم تبعتها أجسادهم!
فالموت لا يأتي فقط من حدّ سكين، ولا من نصل سيف ولا من دهس ولا من تسمّم، بل يأتي قطرةً قطرةً ممّا يدخل عقولنا من مدخلات سيئة!