د.محمد بن عبدالرحمن البشر
ابن الخطيب وزير وشاعر وناثر ومؤرخ أندلسي مشهور ولد عام 713هـ وقيل عام 776هـ وعاش في عهد بني نصر في غرناطة، كان كاتباً ووزيراً لأبي حجاج، وابنه أبي عبدالله محمد الخامس الغني بالله، عاش مع الغني بالله في غرناطة، وفي المنفى بالمغرب، وكان ابن خلدون المؤرخ المشهور، وصاحب كتاب العبر، والمقدمة المشهورة، معاصراً لابن الخطيب وصديقاً له، وبينهما رسائل فيها من الملاحة الشيء الكثير، ومن المؤسف حقاً أن يقتل أمثال هؤلاء العظام بدعوى الزندقة، وعلى من قاموا بخدمتهم، فخسر التراث العربي والعالمي، مصدراً يمكنه تزويد المكتبات العالمية بالكثير من العلوم النافعة، كما فعل ابن خلدون بوضع الأساس لعلم الاجتماع.
وهنتاتة أحد جبال أطلس الشاهقة الواقعة في المغرب الشقيق، كما يطلق على قاطني هذه المنطقة قبيلة هنتاتة، وقد لعبت هذه القبيلة القوية والمعتبرة دوراً بارزاً في فترة حكم الموحدين، ومن بعدهم المرينيين، وهذه القبيلة الكريمة لم تعد المصادر تورد ذكرها منذ القرن السادس عشر، غير أن ليون الإفريقي قد جاء على ذكرها، ووصف أهلها بالشجاعة والغنى، وليون الإفريقي اسمه الحسن بن محمد الوزاني الفاسي، وقد اعتنق المسيحية، وغادر بلده خشية على حياته، فذهب إلى إيطاليا، وأخذ في تدريس اللغة العربية، لكنه بعد مدة طويلة عاد إلى تونس، وقد اعتنق الإسلام مرة أخرى، وكتب كتابه المشهور وصف إفريقيا، وقد ترجم إلى عدة لغات في ذلك الوقت لأهميته.
نعود لابن الخطيب لنذكر أنه قد ذهب إلى مراكش، وقابل شيخ هنتاتة، أبو ثابت عامر المكي، وهذا الشيخ الحكيم، عمل مع السلطان أبو الحسن المريني، وتولى الجباية في عهد أبي عنان فارس، وكان أبو عنان يقول عنه «وددت لو أنني وجدت رجلاً يكفيني ناحية المغرب من سلطاني، كما كفاني أبو ثابت محمد بن عامر ناحية المغرب».
لقد ألقى ابن الخطيب شعراً ونثراً بين يدي هذا الشيخ، ومن نثره قوله: (لم يكن همي، أبقاك الله، مع فراغ البال، وإسعاف الآمال، ومساعدة الأيام والليال، إذ الشمل جميع، والزمن كله ربيع، والدهر مطيع سميع، إلاّ زيارتك في جبلك الذي يعصم من الطوفان، ويواصل أمنه بين النوم والأجفان، وأن أرى الأفق الذي طلعت منه الهداية، وكانت إليه العودة ومنه البداية، فلما حمَّ الواقع، وعجز عن خرق الدولة الأندلسية الراقع، وأصبحت ديار الأندلس هي البلاقع، وحسنت من استدعائك إياي المواقع، قوي العزم وإن لم يكن ضعيفاً، وعرضت على نفسي السفر بسببك فألفيته خفيفاً، والتمست الإذن حتى لا ترى في قلبه السدادة تحريفاً، واستقبلتك بصدر مشروح وزند العزم مقدوح، والله يحقق السول، ويسهل بمثوى الأماثل المثول، ويهيئ من قبيل هنتاتة القبول بفضله) انتهى قوله.
هذا نثر بديع، كأنه زهور الربيع، فيه للقارئ متعة، وبه ثقافة ورفعه، طراوة لسان، تلامس الجنان، وها هو في قوله لم ينسى الأندلس الذي بها ولد، وعلى ترابها طاب له العيش فسجد، حملته الأقدار إلى ذلك الجبل البعيد في المغرب السعيد، لكن في قلبه أسى، وفي روحه لظى، فقد نفي من بلاده، وذوت عنده منابت إسعاده، فما طاب له مثوى، ولا رق له مأوى.
لقد أسهب ابن الخطيب في وصف ذلك الجبل وطبيعته الخلابة، وبرودة مائه، وجمال روحه وتمائله، ثم ذكر ما لقي من استقبال، وما قدم من أنواع الأطعمة، في آنية النحاس المذهبة، ويذكر أن هناك صحون نحاسيه تشمل على طعام خاص من الطير والكباب واللقالق، وهو طير طويل العنق والرجلين يوصف بالذكاء والفطنة، ويقدم للرئيس وخاصته، وربما أنه يعتقد أن أكله للحم ذلك الطير الذكي سيزيد من ذكائه، ويرفع من فطنته.
وعندما جن الليل، وتلاحق الطعام كالسيل، جاء وقت الاحتفال على أنوار الشموع، فقدمت الحلوى التي صُب عليها العسل والسكر، فطاب المجلس، وتسامروا بذكر أخيار سلاطينهم، ثم يذكر نزولهم إلى وعر، لا يسكنه إلاّ الذُّر، حتى وصلوا إلى قبر السلطان، أبو الحسن ثم غادروه إلى مكان استحمامه، وقد أسهب في ذكر كل ما مرّ به خلال رحلته في ذلك الجبل الشاهق الجميل.
ويذكر أنه انحدر إلى مدينة أغمات، ولا يمكن أن يمر ذكر أغمات إلاَّ ويتبادر لي الذهن المعتمد بن عباد الذي ما زال قبره بها بعد أن سجنه يوسف بن تاشفين، قال وقصيدته المشهورة التي قالها وهو مأسور في أغمات وقد قدمت إليه بناته في ثياب بالية بعد عز لم يبلغه غيره وغيرهم حيث مطلعها:
فيما مضى كنت بالأعياد مسروراً
فجاءك العيد في أغمات مأسوراً
إلى آخر القصيدة.
وأغمات كانت في الأصل مدينتين، أغمات إيلان، وأغمات وريكة، وكان بينهما عداء دائم واقتتال، حتى أن كل جماعة منهم يصلون في مسجد الوحيد هناك منفردين حتى لا يصلي مع الفريق الآخر، وقد زال العداء بينهما فيما بعد، وهذا النوع من المنافسة والعداء، كان سائداً في كثير من بلدان العالم، وما زالت بعض النكات تلقى على الطرف الآخر في أوروبا وآسيا والصين، وغيرها من أصقاع الدنيا.