د.سالم الكتبي
لاحظت في الأيام الأخيرة، وتحديدًا منذ كتب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب «التغريدة»، التي هدد فيها بـ»تدمير تركيا اقتصاديًا» إذا شنت هجومًا ضد الأكراد بعد انسحاب القوات الأمريكية من سوريا، أن تغطيات إعلام «الجزيرة» والصحف والقنوات المتلفزة الأخرى الناطقة باسمها، والتي تعمل تحت لافتات تنظيمات الإرهاب، لم تنشر سوى تغطيات باهتة لهذا التهديد الواضح، بما لا يتناسب مطلقًا مع أهميته من الناحية المهنية البحتة!
من باب تحديد المفاهيم والمصطلحات، فإن مفهوم إعلام «الجزيرة» لا يقتصر على شبكة القنوات البائسة التي فقدت بريقها بعدما فقدت مصداقيتها وسمعتها في نظر الملايين، بعد انكشاف كذبها وزيفها والأهداف الخبيثة التي تسعى لتحقيقها، بل هو بالأساس مفهوم يشمل مجمل الإعلام الذي يعوله النظام القطري ويدفع له الكثير من أموال الشعب القطري، سواء كان هذا الإعلام والأقلام في داخل قطر أو خارجها، فهو شبكة متناثرة عبر مدن تركيا وعواصم غربية عدة.
عندما تهدد الولايات المتحدة، الشريك الأطلسي التركي بتدمير اقتصادي، وعندما نتذكر أن تركيا هي ثاني أكبر الجيوش عددًا في حلف الأطلسي، وعضو أساسي في التحالف الدولي ضد تنظيم «داعش» الإرهابي، وهو تحالف تقوده الولايات المتحدة، فإن أي مراقب موضوعي لا بد أن يتوقف عنده، لما للتهديد من دلالات تتعلق بالسياسات والتوجهات الأمريكية في المنطقة، ولكن هذا الأمر لم يحدث، ولن يحدث، في الحالة القطرية، بل تعامل إعلام «الجزيرة» مع الخبر بشكل عابر للغاية حتى لا يُغضب الحليف التركي.
بشكل عام، علينا أن نتفق أن المهنية غائبة تمامًا من البداية في إعلام «الجزيرة» وشقيقاتها المتآمرات، وبالتالي فليس هناك معيار محدد لقياس المهنية والاحترافية في الأداء الإعلامي، بل ليس عليها حرج بالمرة في ذلك، ولكن الأمر هنا يتعلق بحالة قياس ومقارنة للأداء الإعلامي بين حالتين كانت تصريحات الرئيس ترامب القاسم المشترك بينهما: أولهما الحالة التركية التي أشرت إليها سالفًا، والأخرى تتعلق بمجمل تغريدات الرئيس الأمريكي حول المملكة العربية السعودية، حيث نجد «الجزيرة» تكاد توقف نشاطها الإعلامي وترفع لافتة مغلق للبث حصريًا في الحالة الثانية الخاصة بالشأن السعودي، وتجلب المحللين التابعين لها ومن يزعمون أنهم خبراء في هذا الشأن وذاك، ممن تتغير اختصاصاتهم واهتماماتهم في الصباح عن المساء، ويحملون شارات «متحركة»، للاستفاضة في تحليل ما يذكره الرئيس ترامب عن المملكة، وكيف أنه يقصد هذا الأمر دون ذاك، حتى يشعرك هؤلاء بأن عرى التحالف الاستراتيجي القائمة بين الولايات المتحدة والسعودية منذ عقود مضت باتت في ذمة الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله!
قد يكون مفهومًا أن يقود إعلام «الجزيرة» هذا التوجه التحريضي والدعائي ضد السعوديين، بالنظر إلى تأثيرات المقاطعة التي تكاد تذهب بألباب قادة النظام القطري، ولكن ليس من المفهوم مطلقًا أن يقود هذا التعصب الأعمى والرؤية الأحادية المبتسرة هؤلاء إلى غض الطرف عن تحولات أخرى تشهدها المنطقة، وأيضًا عن نهج الرئيس ترامب ذاته، ليس من باب الموضوعية ولكن من باب محاولة الحفاظ على ما تبقى لهذه «الجزيرة» وإعلامها من ماء وجه في نظر القلة المتبقية من مشاهديها ومتابعيها في الداخل القطري!
من باب العلم بالشيء، فإن على إعلام «الحزيرة» أن يتوقف عن الأكاذيب، ويدرك أن لكل شخصية سياسية سمات في الأداء وأسلوب في القيادة، والرئيس ترامب رغم أنه لا يمتلك خلفية عسكرية، فإنه يفضل دائمًا عند الرغبة في فتح باب النقاش والحوار مع دولة أخرى، أن يبدأ بـ»القصف التويتري»، بألفاظ غالبًا ما تكون حادة، وتحمل التهديد والوعيد أكثر من أنها تحمل الأمنيات والتمنيات، أي يبدأ من القوة اللفظية الخشنة كي يصل إلى الدبلوماسية الهادئة، وربما هنا يكون قد أسس لمدرسة جديدة في توظيف الخطاب السياسي الدبلوماسي، وجعل منه قوة خشنة وأخرى هادئة أو ناعمة، مبتعدًا قدر الإمكان عن مفاهيم القوة الصلبة التقليدية التي يقصد بها عادة القوة العسكرية، حيث يستدعي الحديث في هذه الحالة الإشارة إلى قوة الردع الصاروخي والنووي بالنسبة للقوة العظمى الأوحد في العالم.
المهم أن إعلام «الجزيرة» قد تباطأ في تناقل خبر التهديد بتدمير الاقتصاد التركي انتظارًا للرد التركي، كي يربط التهديد بالرد، حفاظًا على صورة وهيبة الحليف التركي! ومن ثم فإن التساؤل الذي فرض نفسه هنا: لماذا يتعامل إعلام «الجزيرة» بهذه الحساسية المفرطة مع نظام أردوغان في حين لم يكن يتجاهل شاردة ولا واردة تخص جواره العربي والخليجي حتى قبل قرار المقاطعة، وكان يتخذ من كل «هفوة» تصدر بحق هذه الدول العربية أو تلك مصدرًا للإثارة الإعلامية والتهييج التعبوي!
الإجابة معروفة طبعًا، ولكن التكرار ربما يفيد البعض، ولعله يذكر هؤلاء الإعلاميين المزعومين بأن حيلهم قد انكشفت وأن عليهم البحث في جعبتهم عن حيل أخرى، ونثق أنها لا تخلو طالما لا تخلو «الجيوب».