د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** كلَّما ظهر منجزٌ بشريٌ ناءٍ عن البيئة المستخدِمة برز تساؤل عن مشروعيته التماسًا لتحليلٍ يبرر الاقتراب أو تحريمٍ يحث على الابتعاد؛ فقد كانت «المبرقةُ» مثارَ جدلٍ في زمنها بين مَن رآها إضافةً ذاتَ معنى ومن شك في رجسيتها مما تُحدِّث به الوثائق ويتناقله الناس، وقريبًا منها «رفضًا أو شكًّا» قُوبل ظهور الإذاعة ونشأة التلفزيون وغزو الفضاء وصولًا إلى زمن الشبكات الفضائية التي دفعت للسوق منتجاتٍ متعددة ، وهكذا.
** كان الاستفهام الفاصل بين القبول والرفض موحيًا بالإجابة؛ فالمبرقة والتلفاز والإنترنت لا تحمل في مضامينها حلًا ولا حرمةً وإنما يحمله توظيفُها خيرًا فخيرٌ وشرًا فشر، وفي أيام بدء التلفزيون بثَّه - قبل أكثر من نصف قرن - سُمع وقرئَ لمستنيري المجتمع أنه أداةٌ لا أكثر، والحكم على ما يعرضه لا على الجهاز ولا المحطة ولا أنظمة البث، وبقيت هذه الإجابة منمطةً يحاطُ بها كلُّ مستجد، وهي إجابة حكيمة في زمنها غير أنها قاصرةٌ على وجهٍ واحدٍ من وجوه التأثر والتأثير، وما كانوا مطالَبين بأكثرَ من هذا.
** ولعل القضية لو بُحثت بصورةٍ أشمل من الحكم الشرعي أو القبول المجتمعي لتداخلت فيها عواملُ مختلفة تقرأ وربما تبرر حجم «التغيير» الذي تحمله «الأداة» وامتداداتُها، لا من أجل إدخالها أو نفيها انطلاقًا من الحل والحرمة فلا مجالَ لمنعٍ ولا معنى لاستفتاء، بل من أجل دراسة التأثير المتوقع منها على التكوين المعرفي والأخلاقي والبنية الاجتماعية والاقتصادية والعلاقات التبادلية بين الناس ومع العالَم.
** هنا يتراجع دور الفرد إذ هو قادر بنفسه على اختيار الأداة التي تلائمه بالصورة التي يألفها قلبه وتحتملها اقتناعاته، ليتصدر المجتمع الذي يعيش أو يعايش التغيير الضخم الذي حمله أو يحمله تطبيق تقني بدَّل كثيرًا في عاداته وتعاملاته دون أن يتجاوز مستفيدوه دور المستقبِل السلبيِّ غير القادر على التحكم ولا المحاكمة.
** والاستفهام الأهم هنا بمنطقٍ جمعي : ما الذي يمكن عمله لصياغة التأثير المقبول استباقًا للتأثر المحتمل، أو تعديلِه، أو تحليل فعله وتحييد تفاعله؟ وهل التثقيفُ القَبْلي والوعظُ المنبريُّ كافٍ لتجيير التغيير بشكل إيجابي؟ والظن أن الإجابة لن تكون بيسر التساؤل، وهو ما يُفترض أن تتلقاه مراكز الأبحاث الاجتماعية بعلميةٍ واستقصاء.
** تجاوزنا ونتجاوزُ تأثير «المفاهيم» دون أن ننجح بالمقدار نفسه مع التقنية؛ فقد مرت الحداثة والصحوة والعولمة وما قبلها وما بعدها من مذاهب واتجاهات وأدلجات دون أن تحفر أخاديد مزمنة في العقل العربي وإن امتدَّ تأثيرها عقودًا أو سنوات، غير أننا ما نزال غير قادرين على فهم أو لجم ما أحدثه ويحدثه «تطبيق» واحد من التطبيقات التقنية الجمعية التي يتداولها الطفل والكهل والعالم والمتعلم والواعي والعييّ.
** التقنية تقود.