عبدالعزيز السماري
لم يعد الإعلام في هذا العصر مجرد وسائل ترفيه أو نقل سردي لمعلومات عن الطبيعة أو حكاوٍ لا تتوقف عن أسرار التاريخ الماضي، ولكن تحول إلى سلطة معاصرة ومؤثرة في سير الأحداث، ونستطيع أن نقول إنه كسر القيود، وأصبح متمردًا جامحًا، و السيطرة عليه لم تعد ممكنة مهما كلف الأمر، ولعل نقطة التحول تاريخياً كانت في تبعات حرب فيتنام وملفاتها السرية في بداية السبيعنات الميلادية.
يذكر التاريخ هذه الواقعة بشكل مفصل، حيث ابتدأ من 13 يونيو 1971، نشرت صحيفة النيويورك تايمز سلسلة من المقالات في الصفحة الأولى بناءً على المعلومات الواردة في أوراق البنتاغون، وبعد المقال الثالث، حصلت وزارة العدل الأمريكية على أمر تقييدي مؤقت ضد نشر المزيد من المواد، بحجة أنها تضر بالأمن القومي للولايات المتحدة. وبعد أيام انضمت واشنطن بوست إلى التايمز من أجل رسالة الحق في النشر، وفي 30 يونيو/ حزيران حكمت المحكمة العليا الأمريكية 6-3 بأن الحكومة فشلت في إثبات ضرر للأمن القومي، وأن نشر الأوراق كان مبرراً بموجب حماية التعديل الأول لحرية الصحافة.
بالإضافة إلى نشرها في صحيفة تايمز، بوست، وبوسطن غلوب وغيرها من الصحف، دخلت أجزاء من وثائق البنتاغون التاريخ عندما قرأها السناتور مايك غرافل من ألاسكا، وهو منتقد صريح لحرب فيتنام، بصوت عالٍ في جلسة استماع للجنة الفرعية في مجلس الشيوخ، وكشفت هذه الأجزاء المنشورة أن الإدارات الرئاسية لهاري إس. ترومان، ودوايت أيزنهاور، وجون كينيدي، وليندون بي. جونسون، قد ضللوا الرأي العام حول درجة تورط الولايات المتحدة في فيتنام.
في دعمه لحرية الصحافة المضمونة في التعديل الأول للدستور الأميركي، كتب قاضي المحكمة العليا بوتر ستيوارت: «في غياب الضوابط والتوازنات الحكومية الموجودة في مجالات أخرى من حياتنا الوطنية، فإن التقييد الفعال الوحيد على السياسة التنفيذية والقوة في مجالات الدفاع الوطني والشؤون الدولية قد تكمن في مواطنين مستنيرين - في رأي عام مستنير وناقد يستطيع وحده حماية قيم الحكومة الديمقراطية.
بعد صدور حكم المحكمة العليا، قامت إدارة نيكسون ببرفع قضية ضد دانيل إلسبرغ وشريكه أنتوني روسو، متهمًا الاثنين بتهم جنائية تتضمن التآمر والتجسس وسرقة ممتلكات حكومية. وبدأت المحاكمة في عام 1973، لكنها انتهت بفصل التهم بعد أن اكتشف ممثلو الادعاء أن فريقًا سريًا للبيت الأبيض يطلق عليه اسم «السباكين» قام بسرقة مكتب الطبيب النفسي في إلسبرغ في سبتمبر 1971 من أجل العثور على معلومات من شأنها تشويه سمعته، وقد شارك السباكون المزعومون، في وقت لاحق في اقتحام ووترغيت في عام 1972 الذي من شأنه أن أدى إلى استقالة نيكسون في عام 1974.
كانت هذه الحوادث المتتالية بمثابة الانقلاب الإعلامي على السلطة السياسية في الولايات المتحدة، وكانت بمثابة نقطة مفصلية في صعود سلطة الإعلام إلى منصة أعلى من السلطات الأخرى، وفي ذلك تحول حقيقي في مسار التاريخ السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ومنذ ذلك اليوم، والسلطات باختلاف اتجاهاتها تحرص أن لا تخرج عن الضوابط القانونية في العمل العام، وتحاول دوماً أن تفعل الشيء الصحيح، لكن ذلك لا يعني أن نزعة التهور قد تصاحب بعض القرارات، ومن ثم تبدأ المطاردة تحت مظلة القانون بين الإعلامي والسياسي وهكذا..