د. جاسر الحربش
البحث في علاقة الفقر والغنى بالصحة والمرض قديم قدم الدول والممالك. في العشرين سنة الأخيرة كثرت الأبحاث المدعمة بالأعداد والإحصائيات والنسب المئوية عن العلاقة المؤكدة بين توزيع الثروات الوطنية وخارطة الصحة والأمراض في الدول والمجتمعات. إجمالاً توجد دول ثرية سنت لنفسها قوانين ملزمة لتشمل ملاءة الثروة الوطنية كافة أو أكبر قطاع من المواطنين. هذه المجتمعات حققت مقابل ذلك المعدل الصحي الأفضل والمعدل الأقل لانتشار الأمراض. بالمقابل توجد دول فقيرة في الناتج الوطني العام ولكنها تطبق توزيعاً معقولاً من المساواة الاجتماعية لإمكانياتها الإنتاجية، فحصلت مقابل ذلك على معدل صحي متوازن وانتشار أقل للأمراض من الدول صاحبة الدخل الوطني العالي ولكن بعدالة متدنية في توزيع الثروات الوطنية. الاستنتاج من ذلك يعني بالضرورة وجود نموذج ثالث يمتلك أفضل الإمكانيات لنشر الصحة ومكافحة الأمراض لكنه يفشل بسبب احتكار حصة كبيرة من الثروات لصالح نسبة قليلة من المواطنين.
معظم الدول الغربية ومعها اليابان وسنغافورة وكوريا تمثل النموذج الأول، حيث فرضت القوانين فيها مشاركة العاجزين والعاطلين والأقل تعليماً في ميزات النظام الوقائي الصحي والرعاية الاجتماعية على الأقل في حدود تحفظ الكرامة ضد التسول والجوع والأمراض المزمنة المترتبة على ذلك. النموذج الثاني، أي الدول الفقيرة التي تعتمد عدالة العسر واليسر موجودة في روندا وأوروجواي وإلى حد ما في ماليزيا والبرتغال.
المفاجأة التي كشفتها أبحاث العلاقة بين توزيع الثروات الوطنية والصحة والمرض كانت في الدول الثرية التي تذهب أكثر من ثلاثة أرباع ثرواتها إلى عشرة في المائة من السكان مقابل الربع فقط للتسعين في المائة المتبقية من المواطنين، وأوضح مثال على ذلك الولايات المتحدة الأمريكية حيث يطبق مبدأ ادفع مقابل ما تحصل عليه في الرعاية الصحية.
كان بعض ما عثرت عليه الأبحاث هو التالي :
أولاً: الانتشار الواسع لأمراض الحياة المترفة الثرية، مثل البدانة والسكر والضغط المرتفع وتشمع الكبد وتصلب الشرايين وهشاشة العظام وأمراض القلب والفشل الكلوي. المفاجأة الأخرى كانت أيضاً الانتشار الواسع للأمراض النفسية بين نفس الطبقات المرفهة مثل القلق والاكتئاب والوسواس القهري وانتشار الكحول والمخدرات وما يترتب على ذلك من ارتفاع نسب الطلاق والانتحار والتشتت الأسري.
ثانياً: الانتشار الواسع أيضاً لأمراض الجوع والعري والبيئة السكنية المتردية وسوء التغذية وفقر الدم ونقص المناعة والأمراض المعدية في تلك الدول الغنية كذلك بما يماثل أمراض الدول التي تعيش على أو تحت خط الفقر. انتشار الأمراض النفسية حسب الأبحاث كان أيضاً واسعاً في الطبقات المعدمة داخل المجتمعات الثرية ولكن باتجاه الاكتئاب والإحباط واستعمال المخدرات. الأمراض التناسلية بسبب الممارسات الخاطئة كانت موزعة بما يشبه التعادل بين الأغنياء والفقراء.
كلما اقترب توزيع المتوفر من الثروات الوطنية من التشارك في فرص التعليم والعمل والخدمات الاجتماعية ارتفع مؤشر الصحة وانخفضت مؤشرات الأمراض الجسدية والنفسية. ليس في نتائج تلك الأبحاث ما يستغرب، فذلك هو المبدأ الأول في تعاليم الأديان والإصلاح الاجتماعي، ولكن التطبيق ما زال سجين الأنظمة الإدارية والحسابات السياسية والطبقية في الكثير من دول العالم.