لم يودع الله تعالى في الإنسان شيئاً عبثاً وبلا مهمة، وإن بدا لنا خلاف ذلك فشعور مزعج وغير مريح كالشعور بالخوف، هو في حقيقته وأصل نشأته؛ شعور صحي وصوت مطلوب، طالما أنه سيشكل لنا نظام حماية وآلية دفاع؛ نحو التحرك والتخطيط، والاكتشاف والتطور،،،
كما أن نوعاً آخر من الخوف الصحي هو في أصله قربة وعبادة؛ فالخوف من الله تعالى أحد أجنحة السير إليه، ومن فرائد الخوف من الله تعالى أنه إن صلب واشتد في قلب السائر، تبددت معه كل المخاوف الزائفة الأخرى، أما إن ضعف وقل، فبحسبه تسلطت عليه واجتمعت في قلبه كل المخاوف التي لا أصل لها ولا مبرر ولترافقها جيوش من الشكوك والأوهام.
الخوف من الله عز وجل، خوفٌ جاذب وطارد في آن واحد؛ جاذب للأمن والاستقرار والسكينة، وطارد للوهم والقلق والريبة {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} فكل شيء نخافه نفر منه إلا الله؛ إذ الخوف منه يقتضي الفرار إليه.
ولكن ما أعنيه في مقالي، هو ذلك النوع من المخاوف الزائفة، والتي على الرغم من هشاشتها وخفتها، إلا أنها تنجح في محاصرة شخص الخائف وحياته، بفرض الهيمنة على سائر مشاعره، وتوجيه سلوكه البشري، كلما ارتفع مستوى تحكمها.
يمكن حصر مثيرات شهية المخاوف - على كثرتها - في مقدمتين: -
1- الخوف المرتبط بالبقاء وهو الخوف على الجسد من الفناء والموت: يلتحق به روابطها كالخوف من المرض والعدوى والأوبئة والتلوث والمبيدات والفيروسات والحسد والعين والجوع والجفاف، المرتفعات، الغرق، الاختناق، الحروب، والكوارث الطبيعية، وكذلك الخوف من الضعف والشيخوخة...
2 - الخوف مما يؤلم النفس الإنسانية: من النقص والرفض والحرمان والهوان:-
وهذا الشعور الثاني هو أكثر غموضاً وخفاءً؛ إذ يفضي بصاحبه إلى مخاوف- لا تحصر - من نوع آخر كالخوف من الفقر، والإفلاس، والتشرد والهجرة والخوف من الفشل، والتغيير، وكذلك الخوف من التأنيب والإدانة والتقصير، والخوف من الحرمان والخسارة، وفقد محبوب أو وظيفة والخوف من فوات التمكين والسيادة والسلطة...إنها سلسلة من المخاوف لا تكاد تنتهي!.
يحس الخائف بأن العالم لم يعد مكاناً آمناً، وصالحاً للعيش، فهو مليء بالصراعات والجرائم، ويجد في نفسه انجذاباً لسماع نشرات الأخبار المتكررة والدائرة حول الحروب والمؤامرات، والإرهاب، والظلم الجاثم، والاقتصاد المتذبذب، والجفاف المرتقب، وينقاد عاطفياً لقصص ارتفاع نسب البطالة، والهجرة، ويتألم لقصص الطلاق، والعقوق، وتفكك الروابط الأسرية، وانهيار العلاقات الاجتماعية، ويقلق بصورة مبالغة لحالات انتشار ظاهرة سلبية كالإدمان والعنف أو غيرها، يرتبك كثيراً حين يسمع عن جريمة ما وقعت في أقصى الأرض، وكأنها وقعت في قاع بيته.
فشعور الخوف يقود صاحبه باتجاه إحدى الوجهتين:-
1- إما إلى حالة من الهروب تتجسد على هيئة حزن وغضب وتشاؤم واسقاط وامتعاض وترقب الخطر وتوقعه، ومن ثم إلى حالة من التراجع، والانطواء، والحد من ممارسة كثير من الأنشطة، وذلك لأن الخوف بطبيعته يمتد ويتوسع ومن ثم لا يملك الخائف إزائه إلا رفع راية الهزيمة على الفور في وجه كل ما يخافه.
2- و إما يدفعه خوفه المفرط إلى اللجوء إلى الدفاع والمقاومة في آن واحد: فهو يدفع عن نفسه المخاوف بمقاومتها؛ وذلك بالركون إلى قوة وهمية تشعره بالأمان والثقة والقدرة على السيطرة على مجريات الأمور.
و هذه القوة الوهمية إما أن تكون بالاعتماد على الجانب المظلم في شخصه، وما ينبري عنه من ممارسات التنمر؛ كاندفاع غضبي، كالشتم وبذاءة اللسان، والفجور في الخصومة، أو إخفاء العداوة بممارسة الحيل والدهاء والتخطيط والمكر، على سبيل المثال كالتجسس على الزوج، وكقسوة الزوج وتعسفه، سادية المدير، كذب الابن، احتيال العامل، غش التاجر، تزلف الموظف لمديره،،،.
أو بالاعتماد على قوة خارجة، وهو يتغذى منها كلما شعر بقرب فلول خطر أمامه، كالتعصب لأهله وعشيرته وقبيلته فهو في الأصل بدافع اللجوء والاحتماء أو الركون إلى ذي سيادة وقوة للغرض نفسه. أو بالاحتماء بالقوة المالية فيعمد إلى تكديس الأموال وطرق كافة الوسائل للتحصيل المالي، مع الحرص الشديد عليها، فيشتهر بالجشع والبخل معاً.
في هذه الحالة وإن نجح في الظفر بشعور الأمن والراحة أو حتى في التحكم وكبح جماح الأحداث لصالحه. إلا أنه أمان وقتي وزائف لاستناده على قوة هشة، ووهمية، وزائلة.
ولأن الإنسان خاضع لما يدور في ذهنه من أفكار، ويتفاقم الوضع إن كانت تلك الأفكار سوداوية وتشكل جزءاً من الوعي الجمعي، فإن الخطوة الأولى للتحرر من قبضة الخوف؛ تبدأ من خلال خوض تجربة فريدة من نوعها:
وهي إعلان نية التحرر من سلطة الأفكار السلبية والخاطئة، بما تحمله من برمجات مركبة وراسخة، في اللاوعي تعزز من سلطان الخوف الوهمي في النفوس.
وإن بدت عملية الانعتاق تلك ليست بالسهلة، لاسيما بالنسبة للأشخاص الذين عاينوا بشخوصهم ومنذ مراحل مبكرة بيئات كانت مرتعاً وخيماً للخوف، أو الأشخاص الذين تخطوا عقوداً من الزمن، وقد استقر في اللاوعي لديهم أنظمة عقلية بائدة، وبالغة التعقيد.
ومما يزيد الأمر صعوبة هو أن النفس «المسولة» أو «الأمارة» ستبدأ بخوض مقاومة من أجل بقائك رهن الخوف وستبرر لك ذلك بمبررات زائفة، وخلط بين أوراق مسببات الخوف؛ وإن كان الأصل في كل حالة سلوكية سلبية، هو (الخوف وحده) وهاك أمثلة مشابهة:-
ادعاء الزهد والقناعة بالقليل من المال والإنتاج هو في الحقيقة تعبير عن (الخوف من الفشل والخسارة)، التفرد بالسلطة بحجة جدارتك لوحدك وتعثر الوضع وترديه دونك هو في أصله: (الخوف من إقصائك وفقدان قيمتك) الصبر على تعسف الزوج الظالم طلباً للأجر، في الحقيقة هو (الخوف من الخسارة والشماتة بالطلاق أو التعدد) التعاطف مع المستضعفين بالاستغراق في مداولة ومتابعة أخبار المظالم والحروب الواقعة بهم مرده إلى: (الخوف من الوقوع في حالة تشبههم). اعتناق رأي الأغلبية وعدم التفرد بالرأي الذي تؤمن بصوابه يعود إلى (الخوف من الرفض والإقصاء) رفض الزواج أو تأجيله بحجة عدم الاستعداد أو عدم الرغبة في واقعه هو: (الخوف من الفشل) الخوف من التحدث أمام الجمهور بدعوى الخجل في حقيقته (الخوف من الانتقاص من صورته في حال التلعثم والوقوع في خطأ)...و قس عليه.
إن الوعي بوهم الخوف، ومقدماته وتبعاته، يعد خطوة جسورة في عملية التشافي؛ لأنه ببساطة ينقل أسباب تعاطي الخوف الحقيقية القاطنة في اللاوعي إلى منطقة الوعي، أي من الظل إلى منطقة مكشوفة، يسهل التعامل معها..
وكذلك فإن من الأهمية بمكان فهم أبعاد الخسارة الفادحة التي يكابدها الخائف من جراء تسليم نفسه لقبضة الخوف، ذلك الوهم الذي يفقد الخائف معه التمتع بلذائذ الحياة، ورونقها، ويفوت عليه الاستمتاع بخوض مغامراتها، وكشف مجاهيلها.
ذلك الوهم الذي يخسر معه نفسه؛ حين حملته على القيام بممارسات لا تتفق مع حقيقته، كإدمان الكذب، والوقوع في الخيانة، وممارسة الإسقاط على العالم من حوله، أو كالسكوت عن الحق، والانضمام لحظيرة القطيع، والركون للظالم، لا يفعل ذلك كله إلا طلباً للسلامة والأمن...
إن مواجهة ما تخافه بشجاعة حتماً سيترتب عليه إعلان ما تكتمه بداخلك من خوف وغيظ من خلال علامات تظهر وتنم عن تغير في عمليات جسدك الفسيولوجية كسرعة نبضات قلبك، وتلعثمك، وتصبب العرق، وارتعاشة أطرافك، وتهدج صوتك، إلا أني شخصياً أعدها عملية ترشيح وتعرية للخوف الكامن بداخلك، من أبعادك الثلاث: جسدك وفكرك وشعورك، ولا ينبغي أن تهتم لذلك في مقابل شعورك العظيم بالزهو والتقدير، الذي يتنامى لديك سريعاً لنجاحك في التحرر والتخلص من خوفك.
القبول والاستسلام لتبعات الخوف: يخفف من شدة قبضته، فسؤال عميق وواقعي تطرحه على نفسك يكشف لك إلى أي مدى أنت تبالغ في تضخيم حجم عواقب الخوف، كالسؤال: وماذا بعد؟ أي ما الذي يمكن أن يحدث؟
فمثلاً إن كنت تخاف من (زوجك القاسي - والدك الغاضب - رئيسك السادي- ركوب الطائرة- الحديث أمام الجمهور...) وخوفك هذا يحرمك من فرص ومناسبات عادلة وكثيرة، تخيل سيناريو المواجهة مع ما تخافه، ثم اسأل نفسك: وما الذي يمكنه أن يفعل معي؟ ما أقصى خطر يمكن أن يحدث معي؟ هي ليست نهاية العالم. ولن يحدث شيئاً خارجاً عن مشيئة الله وعدله وحكمته...
إن الإيمان بأنك إنسان فريدٌ وحر، تكمن في جوهرك قوى خارقة، تستمد قواها المتجددة من الاستعانة المستمرة بقوة آلهية عليا، أصلية، وغير منقطعة، ثابتة، ومتصلة، تنالها بحسب قوة توكلك، وعمق تفويضك، وحسن ظنك بالله تعالى.
و هذا الإيمان لابد من الإعلان عنه صراحة {قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى } سورة طه(46).
فأنت إنسان حر، ولست عبداً آبق. حرٌ من خضوعك لبرمجات سلبية متوارثة، ولأيدولوجيات تروج للكذب، وواعٍ بخفايا نشر الشائعات، والمبالغات، والأغاليط، بعضها يدفعك نحوها جهات مغرضة، يهمها بقاءك رهن قبضتها لمزيد من الابتزاز والنهب، وإحكام القبضة، وفرض السيطرة.
ويبقى علينا ان نثق بأن أحد أبرز ما يعتق الخائف من أغلاله، وأحد أعمق مقدمات التحرر من الخوف المرضي؛ هو إدراك أن الخوف القاطن في أعماق الخائف، والمتحكم في سلوكياته هو مجرد خيال لا أساس له، ووهم لا حقيقة له! وظل أنت وحدك المسؤول عن مضاعفة حجمه.
** **
- هدى مستور