عبد الاله بن سعود السعدون
يوم الانسحاب الأمريكي من سوريا ولّد ردود فعل كثيرة منتشرة في دول الجوار الإقليمي، وزاد من قلق الرموز الإيرانية؛ فجاءت التصريحات المتلاطمة الدالة على شعور القلق والخوف من تداعيات هذه الحركة المفاجئة لتجميع القوات الأمريكية في منطقة واحدة في شمال العراق، وزادها جدية في أهدافها المستقبلية الزيارة اللغز للرئيس الأمريكي لقاعدة الأسد في منطقة الأنبار غرب بغداد.. وظهر المؤشر الأول لتداعيات انسحاب القوات الأمريكية من سوريا وما جاء بكلمة ترامب حين تهنئته الجنود في القاعدة بقوله: «ليس لدي أي خطط للانسحاب من العراق»، وأضاف قائلاً: «في الواقع بإمكاننا استخدام العراق كقاعدة إذا رغبنا في القيام بأي عمل في المنطقة». هذا التصريح يحمل بطياته خطر التحرك الأمريكي شرقًا نحو إيران أو غربًا في العمق السوري. وتحركت الماكينة الإعلامية الإيرانية المنتشرة في العراق وسوريا وجنوب لبنان لمهاجمة زيارة ترامب، ووصفها بالاعتداء الصارخ على سيادة العراق، وبدخوله دون إشعار السلطة العراقية بزيارته المفاجئة والمثيرة للجدل. وجاء الرد الرسمي على لسان رئيس الوزراء عبدالمهدي بأن هناك تنسيقًا مع البيت الأبيض حول الزيارة، ولكن لضيق وقت ترامب تم تغيير جدولها، والاكتفاء بتهنئة الجنود الأمريكان في قاعدة الأسد العراقية الأمريكية المشتركة.
ومع الانعكاسات الفعلية على الساحة الإيرانية للانسحاب الأمريكي من سوريا، وتصريحات ترامب المهددة للأمن القومي الإيراني، مصاحبة لموجة الضغوط الاقتصادية على البازار في طهران، تحركت القوى المعارضة لنظام الملالي؛ فقد قام طلبة جامعة طهران بمظاهرات لليوم الثالث على التوالي للاحتجاج ضد إجراءات التعسف والقمع من قِبل رجال أمن الجامعة ضد الطلاب المتظاهرين، وطالبوه بالاستقالة، ومنح طلبة الجامعة حرية اختيار ممثليهم في مجالس الجامعة، ومنع الاعتقال البوليسي وإجراءات التعذيب والاغتيال في السجون التي غصت بالوطنيين من الطلبة.
تداعيات الانسحاب الأمريكي البطيء من سوريا على طريقة الخطوة ونصف الخطوة أصبحت تكتيكًا عسكريًّا مدروسًا ومتفقًا بشأنه من كل اللاعبين الأساسيين على ساحة العمليات السورية، وبخاصة بين روسيا وتركيا، بالتفاهم المشترك على ضمان حياة القوات الكردية شرق الفرات بعد سحب الغطاء الأمريكي الحامي بوجوده العسكري لقوات الحزب الكردي الديمقراطي الذي تبددت كل أحلامه بتكوُّن الحكم الذاتي في شمال شرق سوريا حتى القامشلي، ولكن أتى الإصرار التركي بإبعاد خطر الانفصال الكردي في الخط الحدودي من شمال العراق حتى شمال شرق سوريا، ودفع قواتهم نحو الداخل السوري بأكثر من خمسين كيلو، مع تعهدهم المباشر لروسيا بعدم إبادة القوات الكردية داخل سوريا. ويتزايد قلق الإدارة التركية على حدودها مع شمال العراق مع تنامي سيطرة حزب العمال الكردستاني الانفصالي على منطقة سنجار، وإعلانها إدارة محلية كردية تابعة لها، وطرد السلطة العراقية منها؛ وهو ما دعا الحكومة العراقية إلى أن تعرض تعاونها مع القوات التركية لتخليص هذه المنطقة الاستراتيجية المهمة للأمن القومي لكلا البلدين الجارين. وقد عرض السيد برهم صالح الرئيس العراقي تفعيل مجلس التعاون الاستراتيجي المشترك بين العراق وتركيا خلال زيارته الأولى لأنقرة الأسبوع الماضي، وركز في مطالبته على تأمين توفير الماء الكافي لدجلة والفرات من منبعهما بتركيا، وتوصلا لحلول لهذه المعضلة المهمة لحياة العراقيين، وتطوير زراعتهم التي هددها الجفاف نحو التصحر. وتعتبر زيارة الرئيس العراقي بداية لمرحلة جديدة من العلاقات بين البلدَيْن.
وأدت الأحداث المتغيرة داخل العملية السياسية في الولايات المتحدة الأمريكية، وسيطرة الديمقراطيين على مجلس النواب، وانتخاب نانسي بيلوسي الديمقراطية المعروفة بمعارضتها لسياسة الرئيس ترامب في نظام الهجرة والسياسة الخارجية وعدم موافقة الكونغرس الأمريكي على صرف مليارات الدولارات على الجدار الفاصل بين أمريكا والمكسيك، إلى أن دعا ترامب للتهديد بإعلان حالة الطوارئ، وتمويل الجدار بأمر الرئيس دون الرجوع للكونغرس.
كل هذه المتغيرات الداخلية والإقليمية والدولية ستنعكس على الأوضاع داخل سوريا والعراق؛ وهو ما سيحقق أوضاعًا سياسية واقتصادية مختلفة وجديدة في المشهد السياسي بكلتا الدولتين العربيتين. وبانت بوادر الخسران الإيراني وإجباره على ترك الساحة العربية بانسحاب قوات حزب الله من سوريا، ومعه العديد من المليشيات التابعة لملالي إيران عن الوطن العربي السوري نتيجة التفاهم التركي - الروسي مقرونة باصطفاف النظام السوري مع هذا التوجه في السياسة الجديدة لمستقبل الشعب العربي السوري.
المؤشرات المتلاحقة تنبئ بأن الجغرافيا المشتركة بين العراق وسوريا وتركيا ستشهد الكثير من المتغيرات الجيوسياسية نتيجة الانسحاب المتدرج الأمريكي عن شرق الفرات، وإعادة انتشاره في المنطقة الغربية من العراق؛ وهو ما سيؤدي إلى إعادة تصحيحية في المشهد السياسي في العراق وسوريا بعيدًا عن سيطرة النفوذ الإيراني في مراكز القرار السياسي.
وقد آن الأوان أن تتم مراجعة الاستراتيجية العربية في علاقاتها الإقليمية والدولية بالسعي الجاد والصادق نحو تصفير الخلافات، وتثبيت أسس التعاون الجديد التي تجنب المنطقة العربية محرقة مطبخ الصراعات الإقليمية والدولية بعد أن علا نارها في شمال سوريا والعراق.. ولنسعَ جاهدين لتجنب المحاور المتصارعة على مصالحه على حساب ثرواتنا وترابنا الوطنيَّين.