د.عبد الرحمن الحبيب
لم يعد السؤال عن إمكانية وقوع حرب باردة جديدة، بل عن نوعية هذه الحرب، ولم يعد السؤال عن طرفي تلك الحرب فهي بين أمريكا والصين وليس روسيا.. السؤال عن الأساس المحرك لهذه الحرب هل هو كما يبدو تجارياً أم أنه عسكري أم هي شاملة.. وهل ستتفاقم أم تخف.. وهل يمكن تفاديها أم أن المواجهة حتمية؟
في يونيو 2005 ، نشر الباحث بمركز الأمن الأمريكي روبرت كابلان (مؤلف كتاب عن الحرب والإستراتيجية للقرن 21) مقالاً عنوانه على غلاف مجلة اتلانتيك: «كيف سنحارب الصين» ذاكراً أن المنافسة العسكرية الأمريكية- الصينية ستحدد شكل القرن الحادي والعشرين؛ وستكون الصين خصماً أصعب كثيراً من روسيا.. الأسبوع الماضي كتب كابلان بمجلة فورين بوليسي: لقد وصل ذلك المستقبل! إنها حرب باردة جديدة.. حرب بحرية، فاختراق الحاسوب الصيني المستمر لسجلات صيانة السفن الحربية الأمريكية وسجلات أفراد البنتاغون وما إلى ذلك تشكل الحرب بوسائل أخرى.. جازماً بأن هذه الحالة السيئة ستتفاقم..
لن تجدي ابتسامات القادة الأمريكان والصينيين أمام الكاميرات إذا كان التجهم خلفها والأصابع على الزناد.. فالصينيون، كما صرحوا مراراً، ملتزمون بدفع القوات الأمريكية بعيداً عن غرب المحيط الهادئ (جنوب وشرق الصين)، فهم يرونها منطقتهم، بينما الجيش الأمريكي عازم على البقاء فوجوده متأصل منذ هزيمة وإعادة بناء اليابان عقب الحرب العالمية الثانية، والحرب الكورية والفيتنامية، وتحالفات واشنطن الحالية تمتد من اليابان شمالاً إلى أستراليا جنوباً.. وهو موقف لا يخص الإدارة الأمريكية الحالية، بل جميع الإدارات السابقة منذ ذهاب الرئيس نيكسون للصين عام 1972 .
أما المحادثات التجارية، فمهما نجحت لن تكون قادرة على تغيير ذلك، وما التوترات التجارية إلا عوامل مرافقة للتنافس العسكري الذي ظهرت أمثلته مؤخراً: سفينة صينية تقطع قوس المدمرة الأمريكية، الصين ترفض دخول سفينة هجوم برمائية أمريكية إلى هونغ كونغ، واشنطن ترسل سفينتين حربيتين عبر مضيق تايوان ... إلخ؛ فيما تعزِّز كل من تايوان والصين لوضعيهما العسكريين في بحر الصين الجنوبي.. ويحذّر القادة الصينيون بأن جيشهم سيتحرك «مهما كان الثمن» لإحباط المحاولات لفصل جزيرة تايوان.. يقول كابلان: علينا التوقف عن الفصل المصطنع بين التوترات التجارية وتلك العسكرية بين أمريكا والصين.
إذا راجعنا آخر تقارير الإستراتيجيات الأمريكية المستقبلية تجاه الصين، كالإستراتيجية الأمريكية للأمن القومي، وإستراتيجية الدفاع الأمريكية الجديدة، وتقرير وزارة الدفاع الأخير عن مستقبل صناعة الدفاع بأمريكا، فسنجدها تضع الصين بمقدمة التحديات. فهل تنزلق الدولتان في فخ ثوسيديديس الشهير، الفيلسوف اليوناني القديم الذي حدّد السبب وراء ذهاب إسبرطة (أمريكا هنا) إلى الحرب مع أثينا (الصين) التي كانت تصعد وتنمو بقوة، بسبب خوف الأولى على بقائها، وفقاً لتحذير غراهام أليسون بروفسور العلوم السياسية بجامعة هارفارد. لكن كابلان يرى أن الوضع الحالي أكبر من مجرد نموذج ثوسيديديس، بل يتعلق بالكيفية التي يمكن للصينيين التغلب على قضية مثل تايوان، ومدى سهولة وقوع الحوادث الجوية والبحرية خارج نطاق السيطرة.. وكلما زاد الصراع على التجارة اقتربت البوارج الحربية الصينية والأمريكية من بعضها في بحر الصين الجنوبي، وقلت سيطرة الجانبين على الأحداث..
الإجراءات الأمريكية ضد الصين ليست فقط فكرة ترامب، بل تؤيّدها المؤسسات الأمريكية كالكونغرس وقطاع واسع من الشركات الأمريكية، وحتى كثير من الكتاب والمحلّلين الذين عادة لا تعجبهم قرارات ترامب.. وما يزعج غالبية السياسيين الأمريكان هو اتهامهم للصين بسرقة الملكية الفكرية، واكتساب التكنولوجيا الحساسة، والاستحواذ على الأعمال التجارية، ودمج القطاعين العام والخاص بحيث يكون لدى شركاتهم ميزة غير عادلة بسيطرة الدولة على القطاع الخاص، والتلاعب بالعملة ... إلخ.
التطور التكنولوجي يشجع هذا النزاع بدلاً من تخفيفه، إذ يمكن لكلا الطرفين التدخل في الشبكات التجارية والعسكرية للطرف الآخر.. فلم يعد المحيط الهادي حاجزاً شاسعاً كما كان سابقاً.. فبضغطة زر على الكمبيوتر يمكن أن تبدأ الحرب.. ولم تعد كالحرب الباردة القديمة حين كان الردع المتبادل عبر الخوف من القنابل الهيدروجينية المدمرة للجميع؛ ففي هذا العصر الجديد من الأسلحة الموجهة بدقة والهجمات الإلكترونية الضخمة المحتملة، اتسع نطاق الحرب غير النووية بشكل كبير.
هناك أيضاً الجانب الإيديولوجي لهذه الحرب الباردة الجديدة، أصبحت الفجوة الفلسفية بين النظامين الأمريكي والصيني كبيرة مثل الفجوة بين الرأسمالية الأمريكية والشيوعية السوفياتية. كما أن طبيعة الاقتصاد قبل العولمي في النصف الثاني من القرن العشرين مختلفة، إذ كان لدى كل من أمريكا والاتحاد السوفييتي اقتصادات داخلية محمية بشكل أفضل بكثير مما هو الآن من قوى العولمة المزعزعة لاستقرار الاقتصادين الأمريكي والصيني.
المحصلة أنها مقدمات لحرب باردة شاملة نتيجة توترات عسكرية وتجارية وإيديولوجية وتكنولوجية، إلى جانب زعزعة الاستقرار التي أحدثها العصر الرقمي بانهيار المسافة الجغرافية.. فهل المواجهة حتمية؟ إذا كانت الحرب الباردة حتمية فإن المواجهة العسكرية غير ذلك والمتوقع أن يتم تفاديها، إلا أن التحدي ضخم.. ولمنع الحرب الباردة من التفاقم ينبغي تكثيف العمل الدبلوماسي، والتفاهمات العسكرية فضلاً عن التجارية، وتخفيف لغة التخاطب العدائية، وتقديم التنازلات المتبادلة، وخلق شبكة علاقات عامة بين الطرفين مثلما حصل إبان الحرب الباردة القديمة..