د. حمزة السالم
يخلط كثير من الناس بين الخلاف في الرأي وبين الخلاف في الحوار. فليس كل خلاف بين متحاورين يُطلق عليه وصف «الخلاف الفكري».
ما يُسمى بمناظرة: هي التي تنتهي بحجة مُفحمة أوخلاف مُعتبر. وشرط المناظرة اللازم هو وجود نص أو مرجع مُتفق عليه من الطرفين. فأي مناظرة لا تقوم على مرجع يُحدد اتجاه سير التسلسل المنطقي في الحوار، فلا تُسمى مناظرة. فمثلاً لا يُعتبر خلافاً- فيمن يُخالف في صحة عبارة «أفي الله شك» -لا في مناسبة إيرادها-، إذا كان المتحاوران مسلمين. بينما يُعتبر الخلاف في هذه العبارة، ولا تُقبل مرجعا إذا كانت المناظرة مع مُلحد. بل إن الاستشهاد بها مع ملحد هو من أعظم التخبط الحواري، لأنها استشهاد بما في إثباته قامت عليه عقيدة الملحد.
ولا يُسمى إنكار المنطق الصحيح في المناظرات خلافا. مثاله: كالاتفاق على صحة نص جريان الربا في الذهب والفضة، ثم يُصر على سحب حكمهما جريان الربا على الفلوس المعاصرة بعلة الثمنية المطلقة، رغم انتفاء الثمنية المطلقة اليوم في الذهب والفضة.
وقد يكون هناك مناظرة تنتهي بخلاف في الرأي معتبر، مع الاتفاق على النص، لحدوث حالة احتمالية نصية تدل على التخصيص بشخص أو وقت أو نص أوحالة أو غير ذلك. كقوله عليه الصلاة و السلام «لا يُصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة»، مع وجود نصوص في الصلاة على الوقت. وقد يحصل خلاف مُعتبر، مع الاتفاق على النص، بسبب تعليق الحكم بلفظ له صور تطبيقية متعددة لها أثرها في الحكم كالخلاف على كيفية تطبيق الرؤيا في دخول الشهر. وهناك أمور كثيرة وشواهد مختلفة.
وكل من يستشهد بالخلاف على مسألة لا يُدرك وجه الخلاف فيها، يضع نفسه موضعا دونيا، وهو لا يدري. ولو قال لا أدري لسلِم في دينه وعقله ولعظُم قدره عند الناس، ولتفتح ذهنه لفهم المسألة.
فنخلص إذن أن الحُجة المفحمة أوالخلاف المعتبر في أي مناظرة لا بد أن يكون أصلهما النقل (الكوني أو الدستوري) لا العقل. فما العقل إلا أداة لتنزيل النصوص المتفق عليها بين المتناظرين على منزل لا يحتمل شهادة المنطق لصحته منزلا غيره.
وعلى هذا فالمنطق إذن هو شاهد على صحة عمل العقل، وليس هو العقل نفسه. (ولذا فالرياضيات منطق لا عقل فهي تشهد على صحة طريقة التفكير ولا تُنشأ الفكرة ابتداء).
ومما يجب ألا يُغفل أمره هنا، هو أن أي طرح منطقي يقوم على العقل ابتداء دون وجود نص مسبق، أو تجربة مُطبقة أو ملاحظة كونية ثابتة، هو مجرد فلسفة محضة تحتمل الخطأ والصواب. واحتمالية الخطأ ليس بسبب إمكانية اختلاف المنطق، فالمنطق (الذي يُثبت رياضياً) لا يختلف، ولكن بسبب غياب عوامل (مجاهيل) كثيرة غابت عن عقل المُنظر أثناء عملية تفكيره. فتراه يخرج بنظرية خداج، احتمالية فشلها كبيرة. وقد تكون نظرية عظيمة ولكنها ما تزال خداجا، فمع غياب شهادة المنطق عنها فلن يتولد إلا مسخا، فيكون خطرها عظيماً إذا كانت اجتماعية أو سياسية، كالشيوعية.