د. إبراهيم بن محمد الشتوي
يميل بعض الكتّاب إلى محاولة التجديد باللغة النقدية من خلال استعمال ألفاظ من خارج المحيط النقدي، ويشحنها بدلالات نقدية على سبيل الاستعارة، واعتبار ذلك من سك المصطلحات، وقد لا يصل إلى أن يكون مصطلحاً يتعارف عليه الدارسون إلا أنه يظل نوعاً من التجديد في اللغة والخروج عن المألوف المعروف منها؛ فنجد ابن عرفة التونسي وهو يتحدث عن دريدا يقول: «الكتابة عند جاك دريدا إشارة لا غير، إشارة إلى ما أفلت من قبضة السلطة الأبوية. إنها ذلك (اليتيم) أو (الابن الضال) أو ربما (الولد اللاشرعي)». هذه اللغة تذكرنا بما كانت عليه عند الأقدمين من أمثال أبي عثمان الجاحظ، ومن جاء بعده من النقد العرب. وقد عددت ذلك بداية التفكير العلمي حيث لم تستقر اللغة العلمية بعد، وكان الكتاب في ذلك الزمن يبحثون في الألفاظ المختلفة رغبة في إيضاح فكرتهم، وشرح ما يدور في أذهانهم؛ لذا فقد ربطت مباشرة بينه وبين ابن طباطبا العلوي القديم، وظننت أنني أقرأ له.
بالنسبة لي أرى أن هذه قطعة أدبية، لكنها ليست نقداً علمياً يحتوي على فكرة مستقرة. والمشكلة أيضاً كثيراً ما نرى كتاباً يحاولون أن يحاكوا هذه الطريقة في الكتابة ظانين أن هذا النوع من الكتابة هو «النقد الحديث» بمعنى أن النقد الحديث لا يعدو أن يكون كما يقول بعضهم «لغة جديدة»، فتراه يرهق نفسه باجتراح الاستعارات محاولاً أن يلحق بركب النقاد المحدثين، أو أن يكون بالصدارة منهم.
والاستعارات الجديدة إذا لم تقدم فكرة جديدة غير مسبوقة في النقد فإنها لا تعني شيئاً ذا بال من الناحية النقدية؛ لأنها لا تتجاوز أن تكون طريقة تعبير عن فكرة سابقة، ينظر إليها من هذه الزاوية؛ فهي تختلف عن التنظير الذي يقدم رؤية متكاملة متماسكة نحو ظاهرة ما.
وقد اتسم النقد الجديد بالتنظير أو النظرية منذ أن بدأت مباحث الأسلوبية، ومروراً بالشكلانية، أو بالأحرى بالاعتماد الأكبر على التنظير؛ فتجد كلاماً نظرياً طويلاً، يكون حاصله التطبيقي قليلاً جداً، أو لا يكون له حاصل؛ فالفروق بينه وبين تطبيق نظرية أخرى لا يكاد يبين.
وهذا يدفع بعض الدارسين إلى التشكيك بقيمة هذا النقد، والقول بأنه كلام لا طائل من ورائه، يكرر بعضه بعضاً بصور مختلفة. فالخلاف لا يعدو الألفاظ والمصطلحات، يحاول كاتبه أن يظهر بمظهر المجددين.
غير أن هذا القول لا يكشف عن وعي بقيمة النظرية، ولا معرفة بطريقة عملها، فهو يفترض أن قيمة النظرية يتحدد ببعدها التطبيقي، وأنه من غير هذا البعد لا قيمة لها، وقد يكون هذا صحيحاً إلى حد ما، وهو أن البعد التطبيقي مهم في النظرية، وقد يكون هو الثمرة الآنية لها، لكنه ليس هو العنصر الوحيد فيها؛ فالرؤية التي تقوم عليها الحركة النقدية الجديدة هي أن النظرية تكتسب قيمتها من نفسها، بوصفها كياناً مستقلاً عن التطبيق؛ فهي هدف قائم بذاته؛ فإذا ظهر أثرها على التطبيق فأمر جيد، وإن لم يظهر فلا يعني عدم أهميتها، أو صحتها؛ وذلك أن النظرية تنبني على نظام في داخلها، تستمد منه صحتها وصوابها؛ فهي تعتمد على أدوات معرفية في تكوينها، يجعلها مستقلة عما سواها من نظريات بناء على هذه الأسس والرؤية. وتعدد النظريات يعني تعدد الأسس التي قامت عليها، والرؤى التي انطلقت منها، والتوظيف للأنظمة المعرفية الذي أنتجها.
ولأن محل النظرية في الأصل العقل فإن وجودها فيه يعني الكشف عن نظام من أنظمة التفكير لم يكن موجوداً في النظرية السابقة، ويفتح المجال أمام ارتياد هذا النظام وتوظيفه بعيداً عن الوجه التطبيقي له الذي قد يظهر في وقت من الأوقات، وقد يكون اعتماده من وجهة النظر النظرية الجديدة مع عدم تباينه عن الرؤية الأخرى مؤدياً إلى رؤية جديدة، ويفتح نافذة من التفكير لم تكن موجودة من قبل في الجانب الأول؛ ما يحقق الفرق بين التطبيقين، ويعطي الآخر وجوداً شرعياً واستقلالاً عن السابق. وهذا البعد الثرائي في النقد الجديد الذي يجعل الجانب النظري جزءاً من العملية النقدية هو ما يميز الحركة النقدية الحديثة.
إضافة إلى أنه يوسع المساحة التي يعمل فيها النص؛ فالنظرية تنطلق في بداية تكوينها من النص ثم تنعتق منه إلى نحو ما يستجيب لها التحليل العلمي، وتمكنها منه الأداة اللغوية التي ابتدأت منه. وهذا الارتباط في البداية وفي تكونات النظرية الداخلية - وإن بصورة غير مباشرة - بالنص واللغة يزيد من أهمية النص، ومن المساحة التي يتحرك فيها، ويبسط نفوذه عليها.