محمد عبد الرزاق القشعمي
زرت الأستاذ عبدالله بن تركي بن عمر البكر، خبير التعليم بحائل -كما كان مسمى عمله بإدارة التعليم- زرته بمنزله في حي شراف بمدينة حائل بتاريخ 10/4/1418هـ، وكنت قد اخترته من بين أبناء المنطقة لتسجيل التاريخ الشفهي للمملكة لكونه شاهداً مرحلة مهمة في النهضة التعليمية وعلى مدى يزيد على نصف قرن، تدرج من مدرس في معهد المعلمين ثم المدارس المتوسطة والثانوية ثم مديراً للثانوية بعدها عمل مفتشاً وموجهاً تربوياً ورئيساً للتفتيش، وأخيراً اقتصر عمله على الاستشارة كخبير تعليم نظراً لما يختزنه من علم وخبرة عمل من خلال تجربته الطويلة.
كنت على معرفة سابقة به بحكم عملي السابق بحائل، وكان ذا مكانة مرموقة بين الرجال والمسئولين، فهو يقدم في المناسبات العامة ليتحدث باسمهم، ويعتلي المنابر مرحباً بزيارات المسئولين للمنطقة وعلى رأسهم الملوك والأمراء لما يمتاز به من قوة بيان وبلاغة وحسن منطق وثقة بالنفس.
عرضت عليه فكرة التسجيل ضمن مشروع مكتبة الملك فهد الوطنية (التاريخ الشفهي للمملكة) فرحب واتفقنا على اللقاء بمنزله بعد صلاة العشاء، حضرت بعيد الصلاة وكان منزله بجوار المسجد، فانتظرت خروجه، بعد أن عرفت أنه آخر من يخرج من المسجد ليقفل بابه.
بدأ مرحباً ومتذكراً طفولته في الرياض والتي مضى عليها ما يقرب من سبعين عاماً ومعتذراً عما ينساه منها. قائلاً: إنه ولد بحائل عام 1356هـ/1937م، توفي والداه صغيراً، فانتقل ليعيش لدى أخ له في الرياض واسمه: عمر بن تركي، وبعد أن بلغ السابعة من عمره أدخله مع أبنائه الثلاثة في مدرسة (كُتّاب) أحد أبناء اليمن في مسجد (الجفرة) غرب حي دخنة وكان القيم على المدرسة يدعى محمد بن سينان، ولمدة سنتين، أخرجهم منها أخوه بدعوى أنهم إذا نجحوا سترسلهم الحكومة إلى مصر. مرجعـاً ذلك إلى تحجـر العقليات، والجهل الضارب أطنابه على المواطنين -وقتها-.
وقال إنه تعرف فيما بعد على شاب يماثله بالعمر من أهل الخرج اسمه: محمد بن عبدالسلام ويسكن مع غيره في أحد بيوت الإخوان وهي عبارة عن غرف في حي دخنة تسمى الرباط وغالبية ساكنيها من العميان الذين يدرسون على يد الشيخين محمد بن إبراهيم وشقيقه عبداللطيف، وكان العبدالسلام من طلبتهما، وقد ربطت بينهم ما يشبه الصداقة فاقترح عليه عندما عرف أنه لا يدرس، أن يلتحقا بمدرسة أهلية (كُتّاب) يديرها أحد أبناء السودان اسمه: محمد السناري وذلك بين عامي 67-1368هـ، ومعروف عن هذا المدير شراسة في تعامله وصلافة في طباعه، إذ قدم له دفتر التطبيق للقواعد وأكثره أخطاء -لعدم معرفته بها- فضرب به وجهه وقال له: يا زفت، ما هذا الجهل؟ فهرب من الكتاب هو وصديقه، ذهبا بعدها للمدرسة الأهلية بالبطحاء ومديرها عبدالله بن إبراهيم السليم عام 1369هـ وبقيا بها لمدة سنتين، دون علم أخيه عمر لأنه منع أبناءه من الدراسة.
وقد ساعده صديقه العبدالسلام في تعليم قواعد اللغة (النحو) فتقوى، وأحب النحو بعد كره.
وفي عام 1370هـ افتتح المعهد العلمي بالرياض فالتحق بالقسم التمهيدي لمدة سنتين، انتقل بعدها للقسم الثانوي، فتقوت لغته وأصبح مولعاً بالنحو فالتحق بحلقة الشيخ عبداللطيف بعد صلاة الفجر في الزاوية الغربية الجنوبية من مسجد الشيخ محمد مع ما يقرب من 80 من العميان، وبعد شروق الشمس يذهب لمواصلة الدراسة في المعهد. وقال إنه أصبح يعرب القصائد كاملة من ديوان أبي العتاهية، وبدأ يرتاد المكتبات التجارية بالبطحاء وفي وسط المدينة ليشتري أمهات الكتب من النحو حتى تقوى وأصبح يعرب طوال السور، فبدأ بقراءة كتب الأدب وعلم الكلام والفلسفة والمنطق، فأحب كتب مصطفى صادق الرافعي فجمع جميع كتبه فحفظ كتابه (وحي القلم) عن ظهر قلب.
كما حفظ البيان للجاحظ، والعقد الفريد وزهر الآداب، وديوان المتنبي، وكان مع بعض زملائه يقرأون الكتب الأدبية في المساجد إلى جانب زملائهم الذين يذاكرون دروسهم، فذهب زملاؤهم إلى الشيخ محمد بن إبراهيم بصفته مديراً للمعاهد والكليات، مشتكين بأن البكر وغيره يشوشون عليهم ويشغلونهم عن المذاكرة لانشغالهم بغير دروسهم. فسألهم الشيخ: أهم ينجحون أم يرسبون في الامتحان؟ فقالوا: بل ينجحون بتفوق. فقال: العيب فيكم أنتم فطردهم. وذكر من زملاءه النابهين الأذكياء: عبدالله بن سعد الكنهل، وسعود اليمني، وعبدالعال بن مقباس، وصالح العايد، وناصر الشثري.
تخرج من كلية اللغة العربية عام 1379هـ فعين مدرساً بمعهد المعلمين في حائل عام 1380هـ، ثم مديراً للمتوسطة الثانوية عام 1382هـ حتى فصلت المدرسة الثانوية عن المتوسطة عام 1385هـ فأصبح مديراً لها حتى عام 1388هـ أنتقل بعدها لإدارة التعليم مفتشاً مركزياً ثم رئيساً لقسم التفتيش، ثم مديراً للشؤون الإدارية في المرتبة العاشرة، حتى تولى أخيراً وظيفة خبير التعليم في المرتبة الثانية عشرة، حتى تقاعد من العمل.
وقال إن له من الأولاد 9 أبناء و7 بنات، وأكبر أبنائه تركي الذي رزق به وهو صغير السن إذ زوجه أخوه مبكراً على كره.
عاد بعدها متذكراً ذكرياته بالكلية ومدرسيه الذين أشاد بهم ومنهم: محمد الأمين الشنقيطي، وعبداللطيف سرحان، ومحمد سرحان من الأزهر، ومحمد جمعة الجنيدي، وعبدالرزاق عفيفي، ومدرس القواعد محمد رفعت الذي يأتيهم بنكت نحوية وبلاغية شوقهم إلى درسه وحببه لهم.
وذكر أنه كان يشارك في النادي الأدبي الذي كان يقام ليالي الجمع وأن المشايخ وجمعاً من الأهالي علاوة على المدرسين والطلاب يحضرونه، وأن الشيخ عبدالعزيز بن باز يعلق على بعض الكلمات، ومنها كلمته التي ألقاها بعنوان (تكبّر العلماء).
ومن مشاغبات الطلبة أنهم قد أجمعوا على الخروج من الفصل عندما يأتيهم الأستاذ عبدالله بن خميس بعد انتقاله للكلية من معهد الأحساء العلمي مدرساً، فتكرر منهم ذلك حتى حضر مدرس آخر بدلا منه.
وكذلك يذكر أن الأستاذ مناع القطان كان يدرسهم بعض الحصص، فكان غير محبب لبعضهم فكانوا يكتبون على السبورة قبل مجيئه (منّاعٍ للخير مُعتدٍ أثيم عُتُلً بعد ذلك زنيم) فتكرر هذا وهو لا يعلم من كتبها، فانقطع عنهم.
وقال إن أحد أبناء آل الشيخ من زملائهم يجد على السبورة آية تقول (ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز) وإلى جوارها رسم صورته، فذهب للشيخ محمد شاكياً وهو لا يعرف من كتبها فقال له الشيخ: ابحث عن السبب الذي سيرجمونك من أجله.
يذكر ويشيد بأبرز زملائه ومنهم: عبدالعزيز بن عبدالرزاق السيف فقد كان شعلة من الذكاء، وهو الآن من أمهر الأطباء، وسعود بن مشعان المناحي، لواء في الدفاع المدني، ومحمد الجلوي الذي قال عنه أنه ذكي وشقي، لم يكمل دراسته وكما قيل: خلق الشقاء للذكاء.
وذكر الكثير مما لا يسعه المجال.. ولكني سأختصر وأذكر بعض ما يهم القارئ وهو أنه كان مدرساً بمعهد المعلمين عام 1380هـ -أي قبل ستين عاماً- بعد تخرجه من كلية اللغة العربية، ويقوم بتدريس اللغة العربية لطلاب المعهد والطلاب الثانوي ليلياً في الثانوية الليلية، وقال إنه قد اكتسب تجربة وهي أن التربية وعلم النفس ضروريان لكل مربٍّ سواء أكان مدرساً أو مدير مدرسة.
ومن الطرائف التي صادفها عندما كان مفتشاً. أنه أتى مع الطبيب والموجه التربوي لإحدى المدارس في قرية الأجفر وكان مديرها كبيراً في السن، ورغم أن مؤهله جامعي، إلا أنه ذو ثياب رثة ويرتدي أسمالاً بالية ويلبس معطفاً في صبّارة القيظ، وقد جاء ليحقق معه عن سبب غيابه المتكرر. فكلما سأله عن تعميم أو معاملة رسمية أخرجها من جيوب معطفه، فعجب من أمره وسأله: أأنت جعلت الملفات في جيوبك، أم أنت جعلت جيوبك هي الملفات؟ قال: جعلتها في جيوبي أحفظ لها من الملفات، ولما توارى عنه، كلم الطبيب متوقعًا أنه ليس موجوداً في الغرفة لأنه أعشى البصر، فقال للطبيب: أنت أبرك وأنفع لنا من هؤلاء المفتشين الظلمة الفسقة.
وذكر أنه كان يدون مذكراته منذ السنة الثانية من الكلية، فكتب في عشرة دفاتر من فئة 100 ورقة وصححها، وفي فترة طيش الشباب وجنونه وتأثره ببعض ما قرأ لبعض الشعراء المتشائمين جعله يحرقها، لأنها مليئة بالانتقادات لأوضاع المجتمع، ولكل ما اصطدم به من أغلاط وأخطاء.
وقال إنه كتب في المجلات والجرائد موضوعات وفي مناسبات مختلفة، ولكن المسئولين في الصحافة لا يهمهم الموضوعات الرصينة ذات المضمون بقدر ما يعنيهم العناوين والألقاب البراقة، فتوقف عن الكتابة بها مكتفياً بالكتابة بصفة دائمة بمجلة الغرفة التجارية بحائل.
بدأ التأليف بعد إلحاح من مدير عام التعليم الدكتور رشيد العمرو، فألف كتاب (إطلاله على المجتمع) وقال إنه يتقدم الأهالي بكلمة عنهم في كل المناسبات من زيارات ملوك وأمراء ووزراء وأولها زيارة الملك فيصل ارتجالاً.
ترجم له الأستاذ عبدالرحمن بن زيد السويداء في كتابه (الأدباء والمؤلفون والكتاب في منطقة حائل) ج1، فأفرد له خمس صفحات، فقال: «لقد اتصل بي هاتفياً وطلب مني عدم حذف أي كلمة من كلامه الذي كتب فلم أتصرف إلا بالضمير فقط». وبعد أن ترجم له ما سبق ذكره، فاستعرض كتابه (إطلالة على المجتمع) وهو عبارة عن مقالات أدبية اجتماعية وإرشادية وعلاجية منوعة، وبعضها بمنزلة بحث شيق يصل إلى خمس صفحات وكثير منها موجه للشباب.
وعما هو في طريقه للنشر، ذكر (الموسوعة البلاغية) والتي تتضمن الصور البيانية في القرآن الكريم.. وقال إنه استظهر جميع الصور البيانية بدقة شاملة، وشرح كل مجاز أو استعارة أو كناية، وكذلك الفصل والوصل الذي هو نصف البلاغة، وقال إنه استعان بكل أمهات الكتب والمصادر في علوم البلاغة- وسمعت من صديق الجميع الدكتور محمد السيف أنها تبلغ 5000 صفحة لم يوجد من يتول طباعتها-.
وجدت له مقالاً بمجلة سنوية صدر عددها الوحيد سنة 1398هـ من إدارة العلاقات العامة والنشر بإدارة تعليم حائل بعنوان: وسائل الإعلام، نذكر منها قوله: «.. وكم أملت الصحافة على الدول كلمتها وفرضت على العتاة مشيئتها، فهي سلاح بتار وبوق جهوري بصوت له أثره في عصر اتصلت فيه آذان الأرض، وزاد فيه اتصال الشعوب، تيقظ الضمير الاجتماعي بين أمم العالم وتفتحت عيون الدنيا لكل شكاة وظلم أو تعسف واستبداد..».
وآخر في مجلة (صدى الجبلين) العدد الرابع في 3/5/1400هـ تحت عنوان: «الشباب والجندية» نختار منها قوله: «.. ولا شك أن للجندية والتدريب العسكري المدرسي مزايا جسيمة جليلة.. فهو يقوي الأبدان ويفتل عضلاتها.. وينشط دمها وإفرازها.. كما أنه خير ما يصقل الأجسام ويعالج ما بها من رهل أو رخاوة.. مما يجعل المرء ممشوق القد سمهري العود، وإذا كانت له كل هذه المزايا الجسدية فإن له آثاراً خلفية عظيمة ونتائج اجتماعية خطيرة.. فهو يبث في شبابنا خلال الرجولة وصفات الشهامة والحزم، كما يغرس في نفوسهم خلق الطاعة والنظام وروح التضحية والإباء.. وحب النجدة والغوث.. وغريزة العمل وسط الجماعة في تعاون وانسجام..».
وقال عنه تلميذه النجيب سعود المشعان: «.. (إذا سنح لك رأيان فخذ بأبعدهما عن هواك). هكذا قال الحكماء، وقد كان هواي، علم الله أن ادع الحديث عنه لغيري، فمبلغ علمي بأستاذي أنه يتأذى بالحمد، ويضيق بالثناء، وما كنت لأكون سبب أذى له) وحرج وهو الذي مهد لي في صدره أوسع مكان... جمعتني وإياه التلمذة عليه فلمست عن كثب تلك الشخصية العظيمة العاملة المتواضعة، خزانة الأدب، اطلاع واسع في اللغة العربية وفي علومها ومدارسها بصفة عامة وتأصيل للمسائل في حذق العالم الثبت المتبحر، وأصالة في الرأي فيما يدور حوله الخلاف في المعضلات النحوية، وجهد متواصل في التعريف بفضل السلف العظيم من مدارسها... أتحدث عن خمسة عقود من الأستاذية الخالصة العذبة، عرفته يحفظه الله، حين كنت طالباً من طلابه في الإعدادي خريف عام 1962م وهو مدرس كفء يخطر في بُرد الشباب، كثير العمل دؤوباً عليه، شديد الشموخ بعلمه مسرفاً فيه، فلم يعتمد على غيره في سعي، ولم يطأطئ رأسه لمخلوق، يحمل أمانة التعليم في مدارس المنطقة، يصلح بها ما أفسدت العامية من مناهج التعليم، يحاضر، ويعالج، ويتوسع في الشرح، ويمارس على ما فطره الله عليه من صراحة الرأي، وحرية الفكر، وعزة النفس... شغل بعض المناصب الإدارية القيادية، زاول هذه الأمور التربوية المتنوعة مزاولة الخبير العالم والإداري الحازم والمشير الناصح... فتفرغ لتأليف عقد نفيس في محتواه: موسوعة عظيمة عن (الأسرار البلاغية في القرآن الكريم) بأكثر من خمسة آلاف صفحة تحت الطبع... ليت وزارة التعليم تخلد رموزها العظام مثله بإطلاق اسمه العَلمَ على إحدى مدارس المنطقة الثانوية وأحد شوارع المدينة، وفاءً وتخليداً له..» اللواء متقاعد: سعود مشعان المناحي.
رشح من قبل جامعة حائل ممثلاً للغة العربية لعكوفه خمسة عشر عاماً على إعراب القرآن الكريم واستظهار الأسرار البلاغية به. ومنح في ذلك درع الجامعة على الرغم من وجود حملة شهادات عليا لدى غيره.
واعتبره الجميع من رواد التعليم القلائل، ولهذا فقد كرم في مناسبات، منها:
* كرمه أمير المنطقة عام 1428هـ.
* كرم في ثلوثية السيف بحائل عام 1427هـ.
* كرمته جمعية المتقاعدين عام 1429هـ.
* كرم من جامعة حائل عام 1432هـ.