سهام القحطاني
في فن الدراما غالباً النهايات ترسمها البدايات من خلال سلسلة الأحداث التي تتطور مع البدايات لتقودنا إلى نهاية كل حكاية، وكل شيء في الحياة هي حكاية نهايتها مقيدة بطبيعة بدايتها، والسياسة مثلها مثل الحياة هي حكاية في نهاية المطاف.
في حكايات الحياة البدايات المتشابه تنتج نهايات متشابهة، الفصل الأول من هذه الحكاية بدأ في عام 1995م عندما انقلب الابن على أبيه «أقصى بموجبه الوالد عن الحكم» ليستفرد الابن بالحكم ولم يكتف الابن بخيانة الأب، بل «راح يعمل على تكرار تجربته في دول الجوار ظنا وجهلا منه أن ما نجح فيه مع والده المغلوب على أمره سوف ينجح فيه مع الدول العربية المجاورة لقطر» -62-.
وهذا تصرف غير غريب «فالخائن يريد أن يصبح الجميع مثله خونة حتى يثبت لنفسه أنه على حق»، لكن حكام دول الخليج رفضوا هذه الخيانة، هذا الرفض الذي جعلهم أعداء للشيخ حمد فخطط لتدميرهم وتدمير مجتمعاتهم.
ليعيد التاريخ نفسه فيُجبر الأب -الابن الذي خان الأب- على التنازل لابنه للحكم ليُقصى مثلما أقصى والده/الجد الذي مات حسرة وقهراً.
فما فعله الشيخ تميم بإجبار والده على التنازل له عن الحكم؛ هذا التنازل الذي ما زال «لغزا محيرا، وحالة غير مسبوقة» -63- يجعلنا نؤمن صدقاً بالمثل العربي «الابن سر أبيه».
إن فكرة المؤامرة التي أسست قاعدة السياسة القطرية منذ الشيخ حمد الذي خان والده وانقلب عليه هي التي أصبحت الخصائص الرئيسة للعقيدة السياسية القطرية؛ أي المؤامرة والخيانة وهذه الثيمة هي التي سيطرت على الفصل الثاني من الحكاية.
من أبرز صفات الخائن الخوف الدائم وهذا الخوف هو الذي دفع الشيخ حمد إلى الاحتماء بالجماعات الإرهابية وفتح أبواب قطر على مصراعيها لاستقبالهم وهو خوف ورثه من بعده ابنه الشيخ تميم، فقد سار الابن «في كل شيء على خطى والده فلم يغير شيئاً ولم يصف أي جديد على أساليب الحكم، وأبقى كل شيء على ما هو عليه». -63- بما فيها الكيانات الإرهابية التي استوطنت قطر والتي ظلت توثق وجودها في عهد الشيخ تميم بقوة وشدة.
ويعلل خالد المالك قوة هذا التوثيق بعدة احتمالات هي: «أن الأمير الشاب لم يتحرك لتحييد نشاطها الإرهابي، ولم يقم بأي عمل يُفهم منه أنه ضد وجودها، ربما لأنه لا يملك قرار إزاحتها من قطر، أو أنه على خطى الوالد يؤيد بقاءها في الدوحة، ويدعم نشاطها ويرى فيها قوة مساندة لقطر في رسم سياستها الخارجية». -63-.
في فن الحكاية يظل الشر جاذب درامي يؤسس قواعد الصراع ويمنح الحكاية حيوية الواقعية، ويمنح صاحب الشر قوة مؤقتة تقوده في النهاية إلى تدمير نفسه.
لقد ارتضت قطر أن تتحالف مع مصدر الشر -الإرهاب وتمويل التطرف الديني و رعاية المؤامرة و إيواء الخونة والمرتزقة ونقض المواثيق- إيماناً منها بأنه من يمنحها القوة حتى وإن أصبحت دولياً راعية الإرهاب، وجلبت لنفسها العزل والدمار.
لقد اختارت قطر الطريق الذي تعتقد أنه يمنحها القوة وصفة الدولة العظمى الطريق الذي نصحها به» الجوقة التي تدير بخبث القرار المصيري في قطر.. ليدفع شيخ قطر ووالده ثمن تهورهما وعنادهما واستضافتهما لهذه العناصر الإرهابية، واستجابتهما لما تمليه عليهما من مواقف وقرارات وفق مخطط إرهابي عدواني غير مسبوق». -87-، وهو طريق بلا شك سيدفع قطر إلى «مستقبل مظلم ينتظرها» -88-.
لتصبح قطر بهذا الطريق مشكلة، بل وخالقة لمأزق خليجي يحيطه حدّين؛ «إن تركناها على غيها وممارساتها العدوانية، كأننا نبيح لها حق ممارسة الإرهاب، وإن أخذنا بالقرار الصعب لتأديبها جاء من يقول إننا ضيقنا الخناق عليها ومنعنا عنها كل شيء». -89-.
لقد راهنت قطر على توسيع دائرة الشر لتضمن النهاية السعيدة لحكايتها فبعد أن وّطنت الجماعات الإرهابية في بلادها، جمعت أعداء الدول المجاورة لها إيران وتركيا رغم خطرهما على قطر أولاً وقبل أي شيء، لكنه الخوف والشك عندما يمتزجان بالغباء يحولان الحاكم إلى «شمشون الجبار» الذي هدم المعبد على رأسه انتقاماً من أعدائه، وقطر تفكر بذات منطق «شمشون».
هذا المنطق الذي خلق من قطر الدولة «المتلونة، المتناقضة، التي لا تعرف أي قرار لها غداً، وأي موقف ستتبناه مستقبلاً، فالمعايير لدى السلطة المسؤولة.. ضبابية، بل مفرغة من أي هدف، إلا التعرض لأشقائها، خالية من أي مصلحة لقطر نفسها، ما يعني أننا أمام دولة لا تحسن اختيار السياسة التي تقود البلاد إلى السلام والأمن». -53-.
المنطق الذي نقل قطر من صفاتها الاعتبارية كدولة «مسالمة تلتزم بمسؤولياتها كدولة عضو في الأمم المتحدة والجامعة العربية والمجلس الخليجي وغيرها من المنظمات إلى دولة متمردة مؤذية ومتآمرة وإرهابية». -101-.
عندما تصنع الدراما الشر أول ما تفعله إيجاد ذاكرة تاريخية لذلك الشر، فالشر الخالص يتنافى مع الدراما كما يتنافى مع المنطق، ولذا فالشر غالباً يستند على قاعدة تبريرية، فإلى ماذا تسعى قطر لتحويل نفسها إلى «شرير المنطقة»؟
يحلل خالد المالك قاعدة الشر التي تنبني عليها السياسة القطرية بثلاثة اتجاهات هي: شعور النقص والمشكلة الجغرافية وحب السيطرة، فيقول: في «قطر يعاني لاعبوها السياسيون من شعور بالنقص ورغبة في تعويضه بإشعال الفتن في دول المنطقة عن طريق إيواء الإرهابيين وتمويل الإرهاب.. ومن الواضح أنها تشعر بأنها دولة مخنوقة وبلا نافذة برية تصلها بالعالم وتعتقد أن تمرير مؤامرتها يضعف من الموقف السعودي، وبالتالي يتم التسامح والتساهل مع ما يلبي أوهامها بانتظار لمعالجة لوضعها الحدودي.. تريد أن يذعن الآخرون لمطالبها وإلا فسوف تخرب وتخلق المشاكل أمن المنطقة ودولها للخطر». -108-.
وعقدة النقص عند قطر هي حاصل التباين الشاسع بين إمكاناتها المادية والنفطية العالية مقابل قلة حجمها الجغرافي والدولي والتأثيري، وهذا التباين هو الذي أسس، وهما عند حكام قطر أن «قطر بأموالها ونفطها وغازها يجب أن تكون لها مكانة كبيرة غير التي هي عليه الآن». -109-
وأن تلك المكانة حسبما تعتقد لن تتحقق إلا بتحوّلها إلى شمشون الجبار الذي قاده خوفه وشكه في نهاية الحكاية إلى تدمير مبعده وقتل نفسه.