تكتب القاصة والروائية الإماراتية، فاطمة الناهض، رواياتها بحرفة مدهشة، كأنها مجهزة للأداء كمسرحيات مشوقة أو أفلام سينمائية بوليسية بمسحة رومانسية، لا بذاءة فيها ولا إسفاف. تجلّت الحرفة السينمائية المسرحية في رواياتها السابقة «خط الإستواء» و«دنيا» و«القفلة» و«ن. ك.»، وتبدو أوضح في روايتها الأخيرة بيت البحر» تأخذ هذه الرواية منهجًا بوليسيًا حيث يجتمع أبطال الرواية في مكان واحد هو «بيت البحر» بحبكة درامية وسط أجواء رعدية ممطرة كثفتها الكاتبة وبلغت بها الذروة لتعود مرة أخرى وتأخذنا إلى ذرى مختلفة، صعودًا وهبوطًا، من غير أن نشعر بالتكلف في السرد الذي يأتي إليها من دون أن تسعى إليه، خاضعًا لقلمها بسهولة المحب.
تدور أحداث الرواية في مدينة دبي، جنى، الشقراء التي ورثت عن جدتها لون عينيها الشبيه بزرقة البحر، توفي والداها، فعرضت منزل والدها اللبناني الأصل للبيع، ونشرت إعلانًا بذلك، مستعينة بأحد سماسرة العقار، يوسف.. تتلقى جنى عروضًا كثيرة لشراء المنزل المطل على البحر، لكنها تحرص على انتقاء الأفضل بينهم، فقد أوصاها أبوها أن تختار المشتري بعناية. تفرض جنى على كل من يرغب في شراء البيت أن يكتب لها بوضوح سبب رغبته في مظروفليتسنّى لها الاختيار. من بين عشرات المتقدمين للشراء، يقع اختيارها على عدد محدود منهم لم يتجاوز العشرة. تحتبس الأنفاس حول حفلة الشاي التي أقامتها جنى لاختيار الفائز بالبيت، داعية إليها جميع المشترين المحتملين للمنزل. تصوير الرعد، المطر الغزير الفجائي، غرق الشوارع غير المعهود، البرد المفاجئ، الأنفس المتنافرة، والأحاديث الجانبية الكاشفة، كل ذلك وأكثر تم في عرض جميل ومشوق وآسر. تستخدم الرواية جملاً بوليسية مثل «يبتسم تلك الابتسامة الغامضة التي تثير القلق». لكنها تبقي سر هذه الابتسامة الغامضة التي ربما ظنّ القارئ أنها ابتسامة مكر وظفر نابعة من كون سيف (أحد المشترين المحتملين) شديد الثقة بفوزه بالبيت. لكن الرواية تفاجئنا أن الابتسامة الغامضة هي مؤشر إيجابي وطريقة سيف في إظهار عاطفته المكبوتة تجاه جنى! عنصر المفاجأة في الرواية يستمر مع القارئ عبر الذرى والقمم المختلفة في السرد وحتى آخر نفس.
الرواية تحتفي بالنساء وتنتصر لهن، مظهرة عظيم تضحياتهن والخفي من مشاعرهن. مع شخصيات فاطمة الناهض، نكتشف الأنثى، الأم، الزوجة، الأخت، والإبنة من زوايا لم يلتقطها الرجل في رواياته ولم يدرك أبعادها في حياته، ولم يعشها في أحلامه. نساء الرواية العربيات أكثر حرية، يتحدثن عن الحب والفرص واللقاء والتجربة. كذلك رجال الرواية منفتحون ومتحررون، لقاءات وغزل وعناق، لكن أدوارهم شبه هامشية، مكملة، وجلّهم ذوو صفات سلبية، وهم سبب رئيس في تعاسة نساء الرواية، ومن دونهم ربما رأينا نساء الرواية في غاية الفضيلة والأخلاق الحميدة. هنالك الخال الذي طرد ابنة أخته (متقدمة للشراء)، ثم الضابط الذي قطف الزهرة وطلقها ومضى، ثم الصياد الذي ألقى لعناته وابنته خلفه ورحل، ثم إخوان مها (متقدمة للشراء) العاقون بوالدهم سيئو الأخلاق مع أختهم، والد ندى الذي خان زوجته ولم يبال بابنته أين ذهبت وماذا عملت، والد جنى المقامر والذي تزوج من دون علم زوجته، محامي والد مها والطبيب والممرضة المتواطئون معًا في تجاهل لشرف المهنة، عصام الذي ترك زوجته وتعرف على أخرى من بلده وفي مجال عمله، والد ندى الذي يخون زوجته، سيف الذي كان سيئ الخلق مع ابنه، ويتساقى المسكر مع النساء، ووالد مها الذي كان شريرًا جدًا مع ابنته وأبنائه، جل همه هو ثروته وما سيفعل بها أبناؤه. على النقيض، صورت الرواية النساء بشكل مثالي، أخطاؤهن مبررة بما فيهن والدة ندى التي اكتشفت خيانة زوجها فحذت حذوه. نجحت الرواية في إلباس صاحبة محل المساج والمرافقة مسوح الطيبة والكرم وحسن الأخلاق على الرغم من طبيعة عملها وحرفتها وحياتها.
تميزت الرواية باستخدام تقنية تكرار بعض الحوادث (مآسي نساء القصة) من زوايا عدة مختلفة، كاشفة لنا في كل مرة جوانب جديدة من الدهشة والأسرار والأحداث الشيقة. حفلت الرواية بالكثير من الأحداث مع محاولات تسليط الضوء على معاناة النساء. لغة السرد راقية فنيًا وأخلاقيًا، وحين يقود السياق إلى الحديث حول الجنس، نجده يشير إليه في تعبيرات أدبية جميلة غير مثيرة. وحين تتحدث الرواية عن الجسد، تصفه بطريقة مختلفة عن المعهود، تنقل الصورة بكل أمانة لكن بعيدًا عن الإثارة الرخيصة، كأن ذلك هو مسحة دينية تنأى بالسرد عن الخوض فيما يخدش الحياء أو يجرح الدين. أسلوب السرد جاء سلسًا وقريبًا من القارئ، ليس فيه تكلف أو غموض أو استعلاء شعري أو أدبي على القارئ، وهذا من مميزاته. لكن مع ذلك، هناك بعض الجمل التي تترك القارئ بعينين متسعتين من الدهشة:
* مثل طائرة ورقية انقطع خيطها فجأة.. واختفت في السديم..
* الوجه الذي يذوي كل يوم مثل قنديل يكاد زيته الشحيح ينفذ.. يوشك أن ينطفئ نوره.
* بلد يمر به الشتاء مرورًا لطيفًا كأنه ربيع مسرف في الثقة.
* انقلبت سحنتها إلى شيء لا يستحب النظر إليه في تلك اللحظة..
* يشاركوننا بؤسنا الصغير ويضيفون بؤسهم عليه كي لا يبدو شاذًا وخاصًا بنا وحدنا.
ماذا حل ببيت البحر، من سعيد الحظ الذي حصل عليه، ما هو مصيره؟ هل تزوجت جنى واستقرت في دبي أم رحلت إلى الخارج؟ هذا بعض تشويق الرواية، وأستطيع القول إنني كقارئ، أصبحت أحد شخصيات حفلة الشاي، أرغب في اقتناء «بيت البحر»، ويهمني مصيره.
رواية «بيت البحر» فريدة وتستحق الاحتفاء والنشر، وسيستمتع بها القارئ حيث كان.
** **
- د. عبدالله الطيب