البرامج الحوارية تناسلت وتكاثرت بأعداد تفوق قدرة الفرد الواحد على المتابعة، فكل قناة إعلامية تحتوي على عدة برامج حوارية جديرة بالاهتمام. كما أن الشخصيات المشاركة غالباً ما يكونون مسؤولين في دولهم أو ممثلين لمنظمات أو تيارات مؤثرة ميدانياً. وهذه البرامج؛ مهما كان مضمونها ومستوى أدائها؛ تحمل أهمية عالية في ظل تسارع الأحداث في عصرنا. ولكن يبقى السؤال الحائر في عيون الكثيرين: أي من هذه البرامج أجدر بالمتابعة؟
من المفترض أن البرنامج الجدير بالمتابعة هو الذي يضيف لحصيلتي المعرفية شيئاً جديداً! وإذا كانت كل البرامج الحوارية تضيف لمعرفتي كمًّا هائلاً من الإضافات الجديدة، يصبح ليس بإمكاني المتابعة!.. وهذا ما يجري عند الكثيرين أمثالي، لذلك ألجأ في المجالس و»القعدات» إلى «المصارعة الحوارية غير الحرة»، أي أتجاهل ما يريد قوله من يتحاور معي، وأقاطعه لإجهاض أفكاره وتسفيه رأيه، لكي يقال عني في نهاية المطاف إنني محاور «ممتاز» لأني «تغلبت» على فلان!. ثم أعود مرة أخرى وأطرح على نفسي سؤالاً آخر: هل الحوار غالب ومغلوب؟ وإذا كان كذلك هل أكون غالباً دائماً وفلان مغلوب؟.. ولكن أي شخص يستطيع استخدام نفس أدوات «المصارعة» كي يتغلب علي.
وحتى لو كنت غالباً دائماً، ما الفائدة من ذلك؟ أي أنني أدخل في حوارات؛ لا أنا أستفيد فيها من غيري؛ ولا غيري يستفيد مني؛ ما الجدوى إذن من كل ذلك؟
تبتدئ اللقاءات بالسجال غير ذي جدوى، ثم يتعب الجميع من التوتر المخلوط بالشتائم أحياناً، ثم يتحول السجال الصاخب إلى نكات مكررة وساذجة، ثم يتحول اللقاء إلى لعب ورق لا يخلو من «صخب»، ثم ينصرف الجميع خاليي الوفاض!
يدل هذا المشهد على عجز المحاورين عن خوض «حوار بناء» يفضي إلى مراجعة التصورات المختلفة على أساس احترام وقبول الآخر، ثم الخروج بالحد الأدنى من التصورات المشتركة.
وقد لا يكون الخلل هو قلة الاطلاع أو المعرفة، فالكثير متابع للأحداث في شتى المجالات ولديه ثقافة موسوعية، ولكن لا يوجد لديه «منهج» لتوظيف هذه المعرفة من جهة، ولا يعترف بأن الثقافة مفهوم نسبي وليس مطلقاً من جهة أخرى، ومثلما يمتلك هو ثقافة موسوعية يمتلك غيره أيضاً تلك الثقافة.
المنهج المعرفي لا يتكون من خلال الاطلاع الموسوعي، إنما من خلال التربية قبل المدرسة وبعدها. فالطفل -مهما كان عمره- يتعرف على الحياة من خلال محيطه من الكبار، ولكي يتكون لديه «منهج» معرفي لا بد من تمكينه من أن يطرح أي سؤال يخطر بباله حتى لو كانت الإجابة تتجاوز عمره.
أما «التلقين» فهو يُلغي استقلاليته ويجعله اعتمادياً وغير قادر على تكوين منهج للتفكير، وبالتالي يدخل «فريق المصارعة غير الحرة».
** **
- د. عادل العلي