د. عبدالحق عزوزي
لا حديث اليوم في ألمانيا وفي الصالونات الأوروبية إلا عما كشفت عنه السلطات الألمانية الأسبوع الماضي من أن بيانات شخصية لمئات المسؤولين السياسيين والشخصيات العامة بينهم المستشارة أنغيلا ميركل قد تم نشرها على الإنترنت إثر عملية قرصنة أو تسريب معلومات واسع النطاق. وشملت التسريبات لوائح هاتفية عليها مئات أرقام الهواتف النقالة وعناوين، وكذلك وثائق داخلية لأحزاب مثل لوائح الأعضاء؛ وبحسب عدة وسائل إعلام بينها شبكة «إر بي بي» العامة التي تحدثت عن عملية قرصنة، فإن التسريبات استهدفت أيضا مشاهير وصحافيين. وقالت وزارة الداخلية الألمانية إن كل الأحزاب السياسية الألمانية الكبرى بينها «الحزب الديمقراطي المسيحي» وصولا إلى الخضر شملتهم القضية، وبينهم أيضا حزب اليمين المتطرف «البديل من أجل ألمانيا».
وشملت التسريبات لوائح هاتفية عليها مئات أرقام الهواتف النقالة وعناوين، وكذلك وثائق داخلية لأحزاب مثل لوائح الأعضاء. وبعض الوثائق يحمل تاريخ عدة سنوات خلت، وصولا إلى العام 2009 بحسب صحيفة «بيلد».
ونشر حساب على «تويتر» باسم «أوربت» روابط بصورة يومية تضمنت معلومات جديدة. والحساب فتح في منتصف 2017 ولديه أكثر من 18 ألف متابع...
أمن الإنترنت أصبح اليوم من المواضيع الحساسة والاستراتيجية التي تشغل بال العديد من الحكومات العالمية وعلى رأسها الدول الكبرى..فليس غريبًا أن تقرأ مثلا أن قراصنة تمكنوا من اختراق بعض الحسابات الخاصة على البريد الإلكتروني الخاص بكبار المسؤولين الأمريكيين أو أن تتعرض مؤسسات دولية وأجهزة أمن قومية لهجومات إلكترونية. وليس غريبا أن نسمع أن الجيش الإسرائيلي يعمل سنويا لتأهيل مئات الجنود والضباط للعمل في مجال الحرب الإلكترونية في إطار الدوائر الاستخبارية والتنصت أو أن نسمع ونقرأ عن بعض المراسلين والقادة الإسرائيليين أن الحرب الإلكترونية باتت اليوم حربًا تستعد لها تل أبيب جيدًا، خشية أن تدخل في أنظمتها الحساسة فيروسات تشل عملها في أحرج الأوقات...
فأمن الإنترنت أضحى من الخصائص المباشرة لعمل أجهزة الأمن القومي ومصالح الجيش ووزارات الدفاع التي تضع خططًا وإستراتيجيات وسياسات عمومية دائمة لحماية أمن شبكاتها الإلكترونية المعقدة ومن ثم أمنها الداخلي... ونتذكر ما قام به القضاء الأمريكي منذ سنوات عندما قام بمحاكمة خمسة جنود صينيين بسبب القرصنة الإلكترونية والتجسس الاقتصادي... والجنود كما جاء في بعض التقارير الاستراتيجية الأمريكية هم أعضاء في وحدة مسماة «بالوحدة 61398 للجهاز الثالث لجيش التحرير الوطني»...
هؤلاء الجنود الخمسة اتهموا على أنهم من سنة 2006 إلى سنة 2014 قاموا بسرقة أسرار تجارية لشركات أمريكية عملاقة تعمل في مجال الطاقة النووية والمتجددة وغيرها، كما أن الخروج العلني لكبار المسؤولين الأمريكيين وتدخل القضاء الأمريكي دليل على التذمر الكبير والخطر الواضح لحرب جديد لم تعهده البشرية من قبل خاصة إذا كانت تشرف عليه أجهزة دولة بعينها...
مسألة التجسس مسألة قديمة قدم الدبلوماسية الكلاسيكية، ولكن هاته المرة شبكات التجسس تستعمل ادوات وتقنيات حديثة يصعب احتواؤها وتقطن في مواطن لا تخطر على بال أحد...فتواجد الوحدة 61398 كان من اكتشاف الشركة الأمريكية للأمن مونديون Mandian الذراع الاستشاري للحكومة الأمريكية والتي استطاعت بعد مجهود مضن، حسب ما كان قد تناقلته وسائل الإعلام الأمريكية، اكتشاف تواجد الوحدة في شنغهاي في مبنى له اثنا عشر طابقا ويعمل فيه الآلاف من الجواسيس والخبراء المدربين... وأوضحت شركة مونديون ان الاقتصاد الأمريكي يفقد ما بين 24 مليار و120 مليار دولار سنويا بسبب القرصنة الإلكترونية الصينية.
وهذا لا يعني أن الولايات المتحدة الأمريكية هي هنا بمثابة الضحية، فلها من القوة التقنية والملكة والسبق العنكبوتيين ما يمكنها من التجسس على العالم بصمت ودراية ومستعملة أماكن يصعب التنبؤ بها... ثم أن التجسس الاقتصادي والعسكري كما تفعله الصين ليس لوضع الوثائق المسروقة في الرفوف وإنما لإعطائها للشركات العسكرية والصناعية قصد استعمالها، وهنا تجليات الاستراتيجية العسكرية والأمن القومي...
وهذا ما يعطي تقريباً سبعة عشر بُعداً للإستراتيجية -كما يقول كولن إس. جراي- وهي: الأشخاص، والمجتمع، والثقافة، والسياسة، والأخلاق، والاقتصاد والإمدادات اللوجستية، والمؤسسة، والإدارة، والمعلومات والاستخبارات، والنظرية الإستراتيجية والعقيدة، والتقانة، والعمليات، والقيادة، والجغرافيا، والاحتكاك/ المصادفة/ التوجس، والخصوم، والزمن. وهذه الأبعاد لا مناص منها اليوم في عالم معقد يتسم بتهديدات كثيرة ومثيرة للشكوك، والصراع متأصل فيه وغير قابل للتنبؤ.