مكة المكرمة - خاص بـ«الجزيرة»:
أكَّد فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن عبدالله الصواط الأستاذ بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة أم القرى والخبير بمجمع الفقه الإسلامي أنه لا توجد شريعة اهتمت باستثمار الأموال كالشريعة الإسلامية، وذلك لأن الاستثمار في الإسلام تكاملي شمولي، مشيراً إلى أن الشريعة الإسلامية تنظر للمال على أنه قوام الحياة، وحبه مغروس في النفوس.
وقال د. محمد الصواط في حواره مع «الجزيرة» إن منهج الإسلام الاقتصادي متميز، ولو أن المسلمين طبقوا هذا النظام لكانوا في ريادة الأمم، وأن ما ينقصهم لتطبيق المنهج الاقتصادي الإسلامي هو معرفة حقيقة هذا المنهج ومزاياه.
وشدد الدكتور الصواط على أن الإنسان هو ركيزة النهضة وباني الحضارة، ولابد من العناية به تربية وتأهيلاً، كما تطرق الحوار إلى عدد من الموضوعات المهمة في الجوانب الشرعية والاقتصاد الإسلامي.. وفيما يلي نص الحوار:
* رغم نجاح المؤسسات الاقتصادية الإسلامية في تحقيق أهدافها وإقبال الناس عليها، لا يزال بعض الاقتصاديين لا يؤمنون بوجود نظرية اقتصادية إسلامية واضحة المعالم وخاصّةً في مجال الاستثمار، وأنّ كل ما يتضمّنه الإسلام مجموعة توجيهات عامة، فهل هناك تصوّر واضح للاستثمار في الشريعة الإسلامية؟
- لا شك أن هناك نظرية اقتصادية إسلامية متكاملة المعالم والأركان، وهي وسط بين النظامين الرأسمالي والاشتراكي، سواء في مجال الملكية أو الاستثمار أو غيرها.
وفيما يتعلق بمنهج الإسلام في الاستثمار، فلا توجد شريعة اهتمت باستثمار الأموال كالشريعة الإسلامية، ويتميز الاستثمار في الإسلام بأنه تكاملي شمولي، فهو يشمل الاستثمار البشري واستثمار الجهد واستثمار رأس المال. ومن خصائص منهج الاستثمار في الإسلام تعدد صوره وأساليبه من التشجيع على الاستثمار المباشر من زكوات وصدقات وأوقاف، أو غير المباشر، كالدعوة إلى عدم الإسراف والتبذير، والنهي عن الاكتناز، وكذلك ما شرعه من صيغ وعقود استثمارية كالمضاربة والمرابحة والإجارة وغيرها.
* هل فلسفة الإسلام في مواجهة الفساد الاقتصادي تتوقّف عند التّوعية وتطبيق العقوبات؟
- الفساد الاقتصادي مشكلة خطيرة تهدد الاقتصاد العالمي برمته، حيث إن جرائمه ومعدلاته في ازدياد مستمر، ومعالجة الشريعة الإسلامية لهذه المشكلة تتجاوز حدود التوعية والعقاب إلى وضع التدابير والإجراءات الاحترازية، ومن ذلك توفير الأمن الاقتصادي، برعاية الفقراء والمعوزين ومكافحة البطالة بكل صورها، ووضع حد أدنى للأجور والمرتبات، وتحريم الربا والاحتكار، ومسؤولية الدولة عن رعاياها، وذلك بتوفير فرص العمل الكريم، والحث على العمل والإنتاج، وترشيد النفقات العامة، والرقابة الفاعلة على المؤسسات الحكومية والأهلية.
* كيف ضبط الإسلام علاقة الإنسان بالمال في ظلّ الفطرة الإنسانيّة التي تدفع كل إنسان إلى حب المال والحرص على جني الكثير منه بكل الطرق والأساليب المتاحة؟
- تنظر الشريعة الإسلامية للمال على أنه قوام الحياة، وعلى أن حبه مغروس في النفوس، كما قال تعالى: {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا}، والقاعدة العامة في الشريعة أنها لا تمنع الناس من غرائزهم الفطرية، وإنما تهذبها وتوجهها فيما يفيد الفرد والمجتمع، فالمال مال الله والإنسان مستخلف فيه، وسيحاسب عنه من أين اكتسبه وفيم أنفقه، فعليه أن يضعه في مواضعه، وينفقه في وجوهه المشروعة.
* البعض يعتقد أنّ هناك خصومة بين الإسلام والعلم، ولذلك يرجون لأن يقتصر دور الإسلام على تنظيم أمور العبادة واقتباس مقوّمات النهضة من الغرب. هل يمكن أن يحدث هذا؟
- هذه مقولة من لا يعرف حقيقة الإسلام وتعاليمه وهديه، وهو أحد نوعين: إما جاهل أو مغرض، فالجاهل سبيله التعلم، والمغرض سبيله المجادلة بالحكمة والموعظة والبرهان. وغني عن القول أن الإسلام دين العلم والمعرفة، ويكفي أن أول آية نزلت هي قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}. وبعض ممن يفتعل الخصومة بين الإسلام والعلم يستشهدون بالحرب التي كانت قائمة بين الكنيسة النصرانية والعلم، وهذا الأمر ليس موجودًا في الإسلام، ويشهد لذلك الآيات والأحاديث الكثيرة التي تحض على العلم وطلبه، ويشهد له كذلك الواقع التاريخي للعلوم في ظل الحضارة الإسلامية، حيث نشأت هذه العلوم وازدهرت في الدول الإسلامية المتعاقبة، وما قصة الحضارة الإسلامية في الأندلس عنا ليس ببعيد، حيث بقيت منارة إشعاع علمي لقرون عدة في وقت كانت أوربا تعيش ظلاماً دامساً وحرباً ضروساً بين الكنيسة والعلم.
* تمتلك الأمة الإسلامية خيرات وثروات كبيرة، فضلاً عن الثروة البشرية، فهل يمكن بناء نهضة على هذه الثروات فقط كما يحاول أن يفعل البعض؟
- الحضارات لا تُبنى بالمال فقط، بل هناك ثلاث ركائز لبناء النهضة، وهي: الإنسان والأرض والثروة. فالإنسان هو ركيزة النهضة وهو باني الحضارة، فلابد من العناية به تربية وتأهيلاً، والأرض هي الوطن وهي أساس من أسس الحضارة، فلا حضارة بلا وطن نعيش في كنفه وننهل من خيراته، ونعمره بالقيم السامية، وندافع عنه، ثم يأتي المال والثروة مكملين لهاتين الركيزتين، وفوق ذلك كله شريعة حاكمة ونظام رباني نرجع إليه في شؤون حياتنا.
* الإسلام له منهجه الاقتصادي المتميّز، ترى هل تعتقد أن المسلمين طبّقوا هذه المنهجيّة على أرض الواقع؟ وما الذي ينقصهم؟
- لا شك في تميز منهج الإسلام الاقتصادي، ولو أن المسلمين طبقوا هذا النظام لكانوا في ريادة الأمم، وقد كان بعض السلف يقول: يا له من دين لو أن له رجالاً.
والذي ينقص المسلمين لتطبيق المنهج الاقتصادي الإسلامي كثير، أولها معرفة حقيقة هذا المنهج ومزاياه، وكيفية تطبيقه، وتهيئة المناخ اللازم لتطبيق هذا المنهج، فهو ليس وصفة تعطى ولا قالباً جاهزاً، بل هو نظام متكامل للكون والحياة والإنسان، فإن طبق بعضه وترك بعضه لم يؤت أكله، فلابد من مراعاة مواطن التطبيق وكيفية التطبيق وشروط وضوابط التطبيق، وكل ذلك مفصل في كتب التراث، والكتب التي اهتمت بالنظرية الاقتصادية الإسلامية.
* هل أنت متفائل بمستقبل أفضل للمسلمين في ظل ما نراه من جهل وتراجع عن العمل والإنتاج، وفساد سياسي واقتصادي وفكري، وصراعات طائفية ملتهبة في كثير من بلداننا العربية والإسلامية؟
- نعم متفائل كثيرًا، وقد كان من هدي النبي عليه الصلاة والسلام التفاؤل والاستبشار، وبحمد الله بوادر المستقبل وطلائعه مبشرة بالخير، وهذه الصراعات الطائفية لم يخل منها عصر من العصور، ولكن يمكن تجاوزها بالعقل الرشيد والحكمة في التعامل، وتحجيمها قدر المستطاع، وهذا لا يكون إلا بالعمل الجاد من قبل الحكومات ومؤسسات المجتمع، وانتشار الوعي السليم والمنهج الوسطي بين أفراد المجتمع، وهذا يجعل المسؤولية الملقاة على عاتق المثقفين والخطباء ورواد الفكر كبيرة من أجل لجم هذه الظاهرة وتحجيمها.
أما فيما يتعلق بالجهل والفساد، فللحكومات دور كبير في مكافحة هذه الظاهرة بلا شك، ولكن هناك دور كبير أيضًا يمكن أن يقوم به الأفراد والمؤسسات عبر تنمية المسؤولية المجتمعية، وفتح باب المبادرات والتنافس الشريف.
المهمة صعبة بلا شك، والعودة للمسار الصحيح تحتاج إلى تضحيات، ولكن بالهمة والإرادة والعزم سنكون أفضل بإذن الله تعالى.
* ماذا تقول لهؤلاء الذين أنعم الله عليهم بالخير الوفير ولا يؤدون ما عليهم من واجبات تجاه الفقراء وأصحاب الحاجات؟
- أوصي الذين أنعم الله عليهم بالخير الوفير أن يتقوا الله أولاً، {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا}، كما أذكِّرهم بواجبهم تجاه إخوانهم الفقراء والمعوزين، فالمال مال الله وما نحن إلا مستخلفين فيه، لينظر الله كيف نتصرف في هذا المال، ويوم القيامة سنحاسب عن القليل والكثير. كما أذكِّرهم بهدي النبي عليه الصلاة والسلام، فقد كان أجود بالخير من الريح المرسلة. والوقوف مع ذوي الحاجات ليس منة ولا فضلاً من الأغنياء بل هو واجب يحتمه عليهم حق الإسلام، كما قال عليه الصلاة والسلام: (ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع). نسأل الله أن يصلح أحوال المسلمين، وأن يجمع شملهم، ويؤلف ذات بينهم، إنه سميع مجيب.