د. خيرية السقاف
في أخبار الأمس مر بي شريط فيديو لشرطية أمريكية تحاول في ليل بهيم القبض على «مطلوب أمنيًّا»، فإذا به يهجم عليها من نافذة عربتها الأمنية، ويحاول خنقها، وهي تصرخ بقوة، وارتعاب..
الخبر مجرد تصوير لم يقف عنده الشعب الأمريكي، فالمطلوبون أمنيًّا ألوف، ومئات، وضحاياهم من الأمن كثرٌ في مجتمع تترامى أطرافه..
هذه الأحداث تمر يوميًّا بين العقلاء، يقرؤنها، ويمضون لمهامهم، لا وقت لديهم لثرثرة في منصات التواصل، فالمعني به الجهات النظامية..!!
تخيلت هذه الواقعة في دولة عربية، ما الذي سيفعله معها أصحاب الحسابات «التويترية» والأخرى؟!..
ولأنه لا يمكن أن يصدق عاقل بأن مجتمعًا بشريًّا يخلو من مشكلات فردية، وجماعية تختلف باختلاف مستوياتها، وأنماطها، وتحديدًا دول العالم المتقدمة، لا تخلو مجتمعاتها الحديثة، بتفوقها العلمي، والاقتصادي، بأنظمتها المدنية المتطورة، والعدلية، بقوانينها الأمنية المتينة، وصرامتها العدلية، بانفتاح طيوفها على الحياة، والتمتع فيها بكل المتاحات من حرية، ومكتسباتهم فردية..
كما لا يمكن أن يصدق عاقل بأن مع كل هذا تخلو هذه المجتمعات من الجريمة الفردية، أو كتل العصابات على اختلاف الجرائم، ودوافعها، أو تخلو من الأخطاء السلوكية، أو من المتمردين، والغاضبين، والرافضين، والمرضى النفسيين، ومن مختلي العقل، ومن ذوي المصالح الشخصية، أو تخلو من السارقين، والمارقين على الأنظمة؟!..
ولئن صدق العقلاء خلوها من هؤلاء، فلا حرج على غيرهم إن فعلوا..
ولأن لا من يصدق بخلوها من الفئات هذه، وسواها ممن يشذوا عن منظومة المسالمين، والراقين، ومتبعي الأنظمة، وذوي الخلق، وأسوياء السلوك، وأصحاء العقل، والنفس..
فإن السؤال لماذا تمر نزواتهم، وجرائمهم، وحصاد سلوكهم، ومروقهم عن الأنظمة، وعبثهم بسلام مدنهم، وأحيائهم مرور الكرام بين مواطنيهم، وفي وسائل إعلامهم، وتواصلهم؟!، وإن فعلوا والتقط أحدهم للحدث صورة، أو سجله مسموعًا، ومرئيًّا، أو أشاروا إليه في وسائلهم فلمجرد الخبر العابر ما لم يكن كبيرًا ممتدا، أو مؤثرًا ذا بال، لكن لا يركض به كل ذي «حساب» في موقع تواصل للإثارة عنه، أو تضخيمه بأكثر مما يستحقه ..
حتى نحن حين نقرأ عنه يكون عارضًا لنا في وسيلة، ونمر به كأحد مشاهد الأحداث التي لا نلقي لها بالاً كما يفعل مواطنو مواقع الحدث من العالم..
بينما أي حدث سالب يتم في أي دولة عربية، نجده مثار اهتمام سواد كبير من الناس في حسابات تواصلية، ترصده، وتجعله مادة تلوك بها وسيلتهم، بما يضخمه، ويحوله من حادث فردي، وواقعة بشرية، إلى مادة مشاعة بعضها يصبح مثلبة للبلد الذي حدثت فيه، وجرحا..
ويحدث أن يسلك هذا نفر كثير منَّا دون تفكر في أبعاد هذا التهافت في الكتابة عن أي شيء، دون التفكر في كل شيء..
أفلا يعي الراكضون في المضمار بأن لهاثهم وراء الوقائع السالبة بترديدها، والحديث عنها، ورصدها، وتسليط الضوء إعلاميًّا عليها سبيلاً لأن تتسع دائرتها، بينما هي عارضة تحدث في كل أنحاء العالم؟..
أولئك مشغولون ببناء أنفسهم، عابرون بالأحداث البشرية عبورًا كريمًا، أما هؤلاء فمشغولون بطعن أنفسهم.
أفلا يشذب العرب منهج تعاملهم مع وقائع بشرية تقع في كل مكان، ولا تأخذ حيزًا في الاهتمام أكثر من دائرتها حين تبلغ أسماعهم، أو أنظارهم، ويرتقون قليلا؟!..