اللواء الركن م. سلامة بن هذال بن سعيدان
تعتبر المداراة من الأخلاق الفاضلة والسجايا الحسنة حيث إن الذي يتصف بها يخفض جناحه للآخرين من خلال ما يبديه عند التعامل من لين الكلمة والدفع برفق، وتجنب الغلظة مع التلطف بالقول والفعل، وهي ضرورة اجتماعية وسياسة رفيعة تجلب الخير وتدفع الشر، ولا يستغني عنها أحد، سواء ارتفع مقامه أو انخفض، لما يترتب عليها من اكتساب الأصدقاء ودفع عداوة الأعداء وصلاح الدنيا والدين بعيداً عن النفاق والمداهنة.
والمداراة في المفهوم الإسلامي تجمع بين المخالطة بالأخلاق والمزايلة بالأفعال، فضلاً عن أنها ترتكز على المصلحتين الدينية والعامة، كما تكون من أجل درء المفاسد واستجلاب المنافع، واللجوء إليها يكون بحسب الحاجة وبشكل عارض وفي حالات يستدعيها الموقف.
ونظراً لأن مفهوم كل من المداراة والدبلوماسية يدلان على المجاملة وحسن التعامل فإن المداراة تدل على ما يتمتع به المداري من أدب النفس في حين أن الدبلوماسية تضفي على السياسة شيئاً من الأدب والأمل السياسي رغم ما يشوب ذلك من النفاق والمداهنة، انطلاقاً من أن السياسة تهدف إلى الأخذ والعطاء حيث يحاول السياسي عبر قوة الإقناع والدهاء أن يأخذ أكثر بينما بالأسلوب الدبلوماسي يحاول أن يُعطي أقل.
والدبلوماسي الناجح هو الذي يجيد فن المداراة بحيث يحدد لنفسه مسافة لا يتجاوزها في السياسة المعلنة، بينما يضع هامشاً يتحرك فيه في الأمام ضمن دائرة المداراة دون أن ينحدر إلى خبث السياسة وممارساتها الدونية، والمداراة تلتقي مع الدبلوماسية في وجهها الحسن وتبتعد عنها في وجهها القبيح، ومكان الالتقاء كما قال معاوية: إني لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي، ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني، ولو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت أبداً، لأنهم إن مدوها خليتها وإن خلوها مددتها.
وعود على بدء فإنه من رجاحة العقل التعامل بالمداراة وترك المماراة على الوجه الذي يزرع الألفة، ويجمع القلوب المتنافرة بما يضمن إدامة العلاقة مع الأخيار واتقاء شر الأشرار بطريقة تتمحور حول معرفة حدود المداراة وقيودها ومعرفة النفس ومعرفة الطرف الآخر، وقد قال محمد بن السماك: مَنْ عرف الناس داراهم ومَنْ جهلهم ماراهم، ورأس المداراة ترك المماراة، وقد قيل المداراة نصف العقل، وقال الحسن البصري: بل هي العقل كله.
ومداراة المسلم لغيره من أهل الديانات الأخرى لا يعني ذلك الموالاة المنهي عنها، بل تصب هذه المداراة في إطار الاستفادة المشروعة من هؤلاء القوم للحصول على منفعة أو درء مضرة، إذ إنه من قصر النظر والحمق أن تقابل خصماً لدوداً بالمخاصمة والملاحاة، إنما يتعين عليك إذا ما عرفت حاله أن تظهر له ما يستدعي السلامة من أذاه، خاصة عندما تكون على بينة من عداوته، بحيث يصبح دائم التربص، متحيناً للفرص إلى الحد الذي يجعله إن رأى شراً يتربص بك ساعده، وإن رأى خيراً عانده، عندئذ يكون البعد منه أسلم، ومداراته أغنم اتقاء لغوائل مكره وبوائق شره مع التحسب لخطره وأخذ الحذر منه ومجافاته في الباطن وإبداء المخالطة له في الظاهر.
ورغم أن المداراة عند التعامل مع الصديق والعدو صالحة لكل زمان ومكان، فإننا في هذا الزمن أحوج ما نكون إليها نظراً لتعاظم الفتن وتراكم المحن، مما يتطلب من العاقل أن يعاشر الناس ويحاورهم بالملاطفة ولين الكلمة لأن من لانت كلمته وجبت محبته وصحت عشرته، ومَنْ كان هذا حاله فهو خليق بأن يحقق رغبته بأقل تكلفة وأيسر مؤونة شريطة أن لا يثلم دينه بالوقوع في شكل من أشكال المداهنة وقد قال ابن المعتز: ينبغي للعاقل أن يداري زمانه مداراة السابح للماء الجاري، وقال عبدالله بن مسعود: خالط الناس وزايلهم ودينك لا تُكْلِمنَّه.
وبصورة عامة فإن هذا الزمن الذي تعتمد فيه الدول على التكتلات والأحلاف، هو زمن المداراة ضمن إطار دبلوماسية حصيفة، تستمد حصافتها من سياسة فاعلة لها القدرة على الأخذ والعطاء من خلال التكيف مع المواقف، بالشكل الذي يوفق بين تقاطع المصالح وتعارضها على مختلف الأصعدة السياسية والاقتصادية والعسكرية مع تسخير كل ما يمكن تسخيره من العلاقات المتبادلة والمصالح المشتركة لخدمة القضايا والأزمات التي تحتاج إلى المناصرة والمؤازرة من قبل أعضاء التكتل أو الحلف.
وعندما يكون أحد أطراف المداراة يعتمد على قوى خارجية أو موضوعها على درجة كبيرة من الحساسية، فإنها تتحول إلى أناة وصبر كما هو الحال بالنسبة للمملكة إزاء حملات التحريض التي تتعرض لها من قبل بعض وسائل الإعلام الحاقدة والحاسدة التي يمثلها بعضها وسائل إعلام ذات توجهات وممارسات خسيسة، تتمثل في قول الإفك والبهتان والدسيسة، مثل قناة الجزيرة ومَنْ يدور في فلكها، ويمارس الإفك في معتركها، وهذا البوق الإعلامي الذي يمارس التضليل والإفك، والنظام القائم عليه الذي يتحالف مع أهل الشرك، تكون مداراته في تجاهله والتقليل من شأنه وأخذ الحذر منه، وفقاً للسياسة المرسومة والإجراءات المعلومة من قبل الدولة، وثمة وسائل إعلام مأجورة مثل بعض الصحف الأجنبية وأفضل ما يقال عنها إن الكلب ينبح والقافلة تسير مع عدم إغفال أصحاب المنابر السياسية التي تتأثر بما تنشره هذه الصحف، وبالنسبة للطرف التركي فمداراته مطلوبة ناهيك عن أنه شريك في القضية إلا أن سلوكه تجاه المملكة جعل مداراته ينطبق عليها قول الشاعر:
ومن نكد الدنيا على المرء أن يرى
عدواً له ما من صداقته بدُّ
والمداراة عبر الملاطفة اللينة والمكاشفة البينة كفيلة بأن تفعل مفعولها ويثمر محصولها بما يُمكِّن المملكة من تحقيق أهدافها في هذه الفترة الحرجة التي أرجف فيها المرجفون وتقوَّل المتقولون ضدها، متسترين خلف قضية الصحفي السعودي دون أن يدرك هؤلاء أن الغلبة للحق، وأن الداعي إلى الباطل محكوم عليه بأن يعيش في ريبة، وأن يكون أسير عيبه أما بالنسبة للمملكة فتفتخر وتعتز بقيادتها الرشيدة التي ربطت أهدافها بأهداف شعبها، بفضل اتباع نهج قيادي خلاق في الأهداف والأساليب والتعامل، كما أن المملكة قوية بشعبها الذي لا يساوم على انتماءاته الدينية والوطنية والقومية، ولا يقبل أنصاف الحلول في مبادئه وقيمه وولائه وطاعته لولاة أمره، الأمر الذي جعل المملكة عصية على من يريد إلحاق الأذى بها، مهما بالغ في الإرجاف والتقوُّل، حيث إنه لا يرمى إلا الشجرة المثمرة، والحسود دائماً يقذف محسوده من الخلف.