لا شك أن الإنسان يكره المحن والخطوب، ويتبرم من الشدائد والملمات، ويتضجر من الظلم والتعدي، ويغلي صدره غليان المرجل عندما يرى المآسي تترى، والأحزان تتوالى، والعبرات تسكب، والفتن تنتشر، والابتلاءات تتعاقب، وعندما ينظر إلى هذه القضية بنظرة تأملية، فإنه سوف يرى أن في كل محنة منحة، ومع كل ترحة فرحة، وفي كل غدر وفاء، وستتفتح له آفاق وآراء، لَم تكن لتتفتح لولا ما حل به، فيرضى بما قدره الله ويسلم، ويقول: الحمد لله، فمع مرور الأيام وتوالي المواقف حلوها ومرها، وتفاعل الناس من أقارب وأصدقاء وغرباء مع بعضهم البعض حول هذه المواقف فإن الإنسان سيدرك القيمة الحقيقية للشدائد التي تمر به، وسيتذكر قول الله تعالى: (وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون)، وقوله تعالى: {فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا}، ويتمعن في هذه الأبيات التي ذكرها الشافعي رحمه الله، ويعرف قيمتها:
جزى الله الشدائد كل خير
وإن كانت تغصصني بريقي
وما شكري لها حمداً ولكن
عرفت بها عدوي من صديقي
ولذلك -وعلى سبيل المثال- لا تخدم الناس لأجل الناس، فإن كثيرًا منهم يُنكرون الفضل والإحسان، ويتناسون ما أُسدي لهم من معروف -خاصةً مع مرور الزمن- فاجعل خدمتك للناس لا لتنتظر الثناء منهم، بل افعل الخير لتنال الأجر من الله، وتذكر قوله جل وعلا: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا}، فإذا كنت تنتظر ثوابًا من الناس على فعل أديته، أو معروف أسديته، فهيهات هيهات، فإن أكثر الناس ينسون الفضل؛ ولا يشكرون أصحاب الفضل لفضلهم، فلا تحزن لنكران سعيك، ولا تقلق لجحود معروفك وفضلك، فإن أكثر الناس لا يشكرون الله، وينكرون نعمه، قال تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ}، فإن كان هؤلاء قد نسوا أو تناسوا معروفك وجميلك، فإن الله لا ينسى هذا المعروف والجميل، (وما كان ربك نسيا).?كذلك قد تشعر بالخيبة والمرارة، ويحوطك الحزن واليأس من كل جانب، ويعتريك شيء من الدهشة والحيرة والذهول، وذلك عندما تتيقن أن أعز الناس عليك يطعنك في ظهرك، وفي الوقت ذاته يظهر لك خالص الحب والوداد، فعليك ألا تستغرب من ذلك؛ فهذا شيء قد اعتاد عليه بعض الناس في زماننا، بل عليك أن تهيئ نفسك لتستعد لصفعةٍ أخرى من مُحبٍ جديد، فإن طبائع الناس واهتماماتهم مختلفة، وسبل التعبير عن مشاعرهم متنوعة، ولذلك لا تغتر بكثرة الناس حولك، ففي الأعاصير والعواصف لا تثبت إلا الجبال، {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ}، وعليك دائماً أن تتعلم من أخطائك ومن أخطاء الآخرين.?وقد يصل الإنسان إلى مرحلة يظن فيها أن الباطل أقوى من الحق، وأن الظلم أصلح من العدل، وأن الخيانة أفضل من الأمانة، وأن اليأس خيرٌ من الأمل، وأن الموت أجمل من الحياة، فهو ينظر بمنظار الساعة التي يعيش فيها، والمكان الذي يتعايش معه، فهذه ثوابت لا تُقاس بساعة زمنية، ولا بمكان محدد؛ إنما تُحسب على مر العصور والأزمان، فإن الباطل إذا كانت له جولة، فإن للحق جولات وصولات، وأن الظلم مرتعه وخيم، وأن الخيانة لم ولن تكون كالأمانة في سُموِّها ورفعتها، وأن اليأس مطيّة الفاشلين، وأن الموت ليس أجمل من الحياة، وإلا لما كان هناك بعث ولا نشور، ولا حساب ولا جزاء، يقول الشاعر:
وَلَوْ أَنَّا إِذَا مِتْنَا تُرِكْنَا
لَكَانَ الْمَوْتُ رَاحَةَ كُلِّ حَيِّ
وَلَكِنَّا إِذَا مِتْنَا بُعِثْنَا
وَنُسْأَلُ بَعْدَهَا عَنْ كُلِّ شَيِّ
وتذكر دائماً أن الأيام هي الأيام لَم تتغير، والأمكنة هي الأمكنة لم تتبدل، والزمن يجري شاء الإنسان أم أبى، لكن الإنسان نفسه هو الذي تغير، ومزاجه تبدل، بحسب الأحوال المحيطة به، والظروف التي تعتريه، ومع ذلك تراه يعتب على الزمن والدهر، وقد يصل إلى مرحلة السِّباب والشتائم، والشاعر يقول:
نَعَيبُ زَمَانَنَا وَالْعَيْبُ فِينَا
وَمَا لِزَمَانِنَا عَيْبٌ سِوَانَا
في مواقف الشدة تتساقط الأقنعة، وتعرف معادن البشر، فقد يقف معك البعيد، ويصد عنك القريب، فعليك ألا تبالي بذلك أبداً.
قد يخذلك من كنت تأمل أن يكونوا أول المساندين، فثق بالله، وعلق قلبك بالله، واجعل أملك بالله ثم لمن يستحق من البشر، وكن فطناً يقظاً فيما تبقى لك من العمر، وعاهد نفسك ألا تخذل أحداً طرق بابك، وطلب عونك ومساعدتك، سواء في الرخاء أو في الشدة، لأن الخذلان صفة خسيسة لا يقبلها الشرفاء الأنقياء.
أحمد الله واشكره على أقداره التي كشفت لك ما كان خافياً عنك، وأزالت عن عينيك الغشاوة، وقل شكراً لكل من وقف بجانبك في شدتك، وقل لكل من أدار ظهره لك: أنا لم أخسر شيئاً، فالسيئون لا وجود لهم في حياتي.