د. أحمد الفراج
سآخذكم بعيدًا عن تعقيدات السياسة هذه المرة، وأروي لكم حكاية، رواها لي أحد كبار السن، عندما كنت يافعًا، والحكاية تبدأ في قرية صغيرة، حيث كان هناك ثري نبيل، يتميز بالكرم والخلق الرفيع، ولذا يؤم مجلسه الكثير من سكان القرية من عامة الناس، وفي هذا المجلس العامر، يسمع الثري ما يسر، ولا يقصر هو على زوار مجلسه، فعلاوة على تعامله الطيب، تجده أحيانًا يمنح بعضهم قروضًا ميسرة، فهو يحرص على أصدقائه، ويتمنى لهم الخير، وكما يحدث مع النبلاء دومًا، يستغل بعض ضعاف النفوس من الزوار هذه الطيبة والكرم، فلا يتورعون عن الحصول على كل ما يريدون، وضعفاء النفوس لا يتغيبون عن الحضور عن المجلس، الذي تلقى فيه القصائد والروايات الشعبية، وأحيانًا يعزف أحدهم على الربابة، ويضرب الدف بالسامري، ولكن ما أن تدور الدوائر على المضيف، حتى يتخلفوا عن الحضور، ثم يعودون عندما تعود المنافع والمصالح.
لم يكن المضيف النبيل يكترث لغياب أحد، فمجلسه عامر على الدوام، وبلغ به النبل درجة أنه لا يمكن أن يصدق أن هناك من الناس من يفكر بطريقة مصلحية خالصة، خالية من المبادئ والقيم، كما أنه لم يكن يهتم أن بعض زوار مجلسه يغشون مجالس غيره، عندما يكون في حال لا تسر، فهو أكبر من أن يعتقد أنهم يغشون مجلسه للكسب وحسب، ومتى ما انتفى الكسب، فهناك مجالس أخرى يغشونها، فلا وقت لديهم يضيع سدى، ولأنه رجل نقي، فقد كان يستمع لأحاديثهم، ومنهم من يمكن أن يطلق عليه لقب «المكلماني»، من سلاسة حديثه، وهو حديث يقطر عسلا، ويتخلله سمٌّ زعاف، يتم من خلاله تشويه صورة هذا أو ذاك، أو الطعن في ذمة هذا وذاك، والمضيف النبيل يستمع للجميع، ويثق بالجميع، فصاحب المعدن الطيب لا وقت لديه للتأويلات، ولا لسوء الظن.
دارت الدوائر في يوم أسود، فبارت تجارة المضيف النبيل، وفقد كل شيء، ولم يعد في صحبته إلا القلة، وللمرة الأولى أخذ يعيد حساباته، بعدما مضى زمن طويل، لم يعتب خلالها على باب منزله أي من ضعاف النفوس، ممن كان سببًا في ثرائهم ومعرفة الناس بهم، ولم يفكر في عتاب، فالكبار لا يجيدون فن العتاب، وتناسى أمرهم، حتى تبين له أنهم أصبحوا يغشون مجالس نبلاء آخرين، ويمتهنون ذات السلوك والخطاب، وذات مرة تنكّر في زي أحد العامة، وغشي أحد المجالس، التي كان يتواجد فيها أحد هؤلاء، وكم كان ذهوله، عندما سمعه يتحدث عنه بسوء، فما كان منه إلا أن غادر المجلس سريعًا، ولم تسعفه السنين وسوء الحال على أن يفعل شيئًا، فقد لزم منزله، حتى شاع خبر رحيله في المدينة، فشيعته مجاميع الناس، وحضر الناس، عدا «المكلماني» ورفاقه الانتهازيين، فقد كانوا مشغولين بالبحث عن نبيل آخر، ليمارسوا معه ذات السلوك!