د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
تألفُنا الأماكن أكثر مما نألفها، وبينما تقف ذواكرُنا عند المكان الأخير أو الأثير فإن لسواهما حضورًا ذاتيًّا مستترًا أو علنيًّا يغيب في تفاصيل الزمن المُشغِل المنشغِل لتبقى «المجالسُ» -وهي أمكنة- قاسمًا مشتركًا داخل الأزمنة؛ ففيها حكايات الأوائل والأواخر، واحتفاء الواقع والوقائع، وربما كان مشَّاؤُو « أرسطو» -في القرن الرابع قبل الميلاد- مفتتحَ المجالس ذات الطابع الجادّ حيث صنع المشيُ حراكًا معرفيًا لا يزال ممتدًا بآثاره.
** وفي التراث العربي خُلدت مجالسُ بعضِ ذوي العلم والأدب، وفيها لغةُ المناظرة وأسلوب المحاضرة، ومرت مجالس كثيرة لم يهتم منتدوها بتوثيقها، واكتفت منتدياتٌ آخر بما رسمه محبوها مما يستحق دراسة لتبيان تكوينها وتأثيرها وافتقار الأجيال الحالية لأمثالها بما يختصر صفحاتٍ وخبراتٍ لم يعهدوها في المجالس الرقمية عبر الشبكات الفضائية، وفيها كبارٌ وصغارٌ، وعقلاء وسفهاء، وعارفون وهارفون.
** أوشكت نظرية «الشيخ - المريد» تتوارى؛ فلمساتُ «الأزرَّة» كفيلة بنقل الخبر والمعلومة والتحليل والقراءة من غير أن نكدَّ ذهنًا أو نرهق جسدًا، ومع أننا صرنا نمشي أكثر، ونلتقي في مجالس العوالم الافتراضية أكثر لكننا افتقدنا «المجالس -المدارس» التي أنارت عقولاً ووسِعت قلوبًا وأضاءت دروبًا.
** كنا نصطفي المجالس التي نغشاها أو نقرأُ عنها أو نستقي مخرجاتها، وهي اليوم تخترقنا دون أن نشاء؛ فكثر الغثُّ والرث، والزَّين والمَين، والحيفُ والزيف، وبينها -لا ريب- حقائقُ وإضاءات تتيه وسط ركام التناقضات والتفاهات وما قد يطال ذمةَ الإِنسان وضميرَه.
** أين الوقتُ هنا؟! يبدو ألا مكان له كما لا مكانة، ومثلما كنا نعجب ممن يُزجون أوقاتهم في لعب الورق أو مشاهدة الكرة أو أحاديث الاستراحات المملة فقد جاء زمنٌ يترحم عليها، وبمعدلٍ وسطيٍّ تحسبه الأجهزة ولا مساس بمصداقيته فإن معظم وقت الصحو تشغله المجالسُ المَلهاة، وما ندري ما الله صانعٌ بالجيل القادم الذي لم يألف معظمُه سهرة الكتاب وعناقَ الألباب.
** كنا ثلة أصدقاء في مجلس ثقافي فاشتركنا في جهل كثيرٍ من الأسماء التي تطرحها دور النشر وضعفِ ما اطَّلعنا عليه من نتاجها، وساء صاحبَكم يومًا أنه مرَّ بمجموعة موقِّعين في معرض كتابٍ وقرأ أسماءَهم فلم يعرف منهم أحدًا، ولام نفسَه، ثم وجد عزاءه في شاعر عربيٍ قال: إنه «عدَّ سبعة وعشرين شاعرًا ذوي دواوين لم يسمع بأيٍ منهم بالرغم من قربه من المشهد «؛ فمن هؤلاء؟ وأين الكتابُ «الجليس»؟
** تاه المجيدون منهم وسط الزِّحام والرُّكام، وقدَّر صاحبكم أن معظم الجيل الناشئ ليسوا «مشَّائين» ولا « مجلِسيين» ولا «قارئين»؛ حيث لم يعد الممشى للتفكير ولا المجلسُ للتنوير ولا الإبداعُ للمتمكن ولا التأليفُ لمن بلغ من العلم شأوًا عليَّا.
** المَجالسُ نبضُ مُجالسيها.