يعد البحث العلمي ركيزة أساسية يُعتمد عليها في تطور ونمو المجتمعات الإنسانية، والعامل الكبير في تحقيق تنميتها الشاملة في المستويات الفكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية كافة.
إن التحديات التي يمر بها المجتمع السعودي ، والانفتاح الثقافي من خلال التقنية التي تغلغلت في النسيج الثقافي والاجتماعي في مجتمعنا تطرح إشكاليات جديدة وهواجس معرفية نوعية تتطلب أدوات بحثية ومنهجية مبتكرة.
ويلاحظ المتابع لحركة البحث العلمي على المستوى العربي والوطني سيطرة البحوث الكمية الإحصائية على بحوث طلاب الدراسات العليا في العلوم الإنسانية، وقلة الدراسات التربوية التي تستخدم البحث النوعي، وعزوف الباحثين عن تطبيقه.
ويؤكد ذلك كثير من الدراسات التي أُجريت للكشف عن اتجاهات البحث التربوي، فعلى سبيل المثال، توصلت إحدى الدراسات البحثية إلى أن أكثر مناهج البحث تطبيقاً في الرسائل الجامعية التي تمت إجازتها في الجامعات السعودية خلال الفترة (1411 - 1433هـ) في تخصص أصول التربية، هو المنهج المسحي، ثم الوثائقي، ثم التاريخي، وآخرها التجريبي (1)، كما كشفت دراسة أخرى أن المنهج الوصفي التحليلي كان أكثر المناهج تطبيقاً في الأبحاث ذات العلاقة بمجال أصول التربية والمنشورة في مجلة جامعة الملك سعود ، وبنسبة 80.7 في المئة من إجمالي الأبحاث (2).
وحتى عند زيارة بعض المكتبات الجامعية والخاصة يُلاحظ قلة الكتب والإصدارات التي تتناول مناهج البحث النوعي، وتدرسه دراسة مفصلة كنظيره المنهج الكمي، إضافة إلى أن بعض الجامعات السعودية تقتصر مفردات مقرراتها ذات العلاقة بمناهج البحث على المنهج الإحصائي الكمي، وحتى إن تعرضت للمنهج النوعي فيكون بالتعريف به بطريقة سطحية غير مفصلة، بحيث لا تساعد طلبة الدراسات العليا على الإلمام الكافي بمهارات البحث النوعي واكتساب المهارات اللازمة لاستخدامه.
إن ذلك يؤكد وجود عدد من العوامل قد تقف عائقاً أمام الباحثين الذين يرغبون في إجراء البحوث النوعية. وقد أشارت بعض الدراسات إلى مجموعة من العوامل، منها :
سيادة البحث الكمي (دراسة وتأليفاً وتطبيقاً) في البحوث، والافتقار إلى وجود معايير واضحة ومحددة للحكم على البحوث النوعية، وافتقار منهجيات البحث النوعي لإجراءات وخطوات محددة، وضعف تعريف الطلاب بمداخله وأساليبه والتدريب عليها، وضعف دعم المناهج الدراسية للتفكير الناقد والتأملي الذي تتطلبه البحوث النوعية، وقلة المراجع والكتب العربية المتخصصة في منهجياته في الحقل التربوي، وضعف دعم البحوث النوعية من عمادة البحث العلمي ومراكز البحوث، والخوف من ضعف التعاون مع المؤسسات ذات العلاقة عند إجراء البحوث النوعية، وقلة الدورات وورش العمل التي تقدم لإتقان مهارات التعامل مع البحوث النوعية، بالإضافة إلى عوامل ذاتية مثل رهبة الطلاب من طبيعة البحث النوعي وأساليب إجرائه، وطول المدة الزمنية لإجرائه غالباً، وضعف الوعي بدور البحوث النوعية في خدمة الميدان التربوي، وحاجتها إلى المعايشة والنزول لميدان الدراسة مقارنة بالبحوث الكمية غالباً.
ومما لا شك فيه فإن تشخيص المشكلة سيسهم في حلها، وإذا كانت تلك العوامل مؤثرة على المشهد التربوي الحالي بنسب متفاوتة، فإن التغلب عليها ومعالجتها هو جزء أساسي من الحل.
وفي ضوء ذلك فإن من الوسائل الُمِعينة على تعزيز حضور البحث النوعي في المشهد البحثي التربوي ما يلي :
التوسع في إدراج مناهج وأساليب البحوث النوعية في خطط الدراسات العليا ( الجانب النظري)، وتدريب الطلاب فترة الدراسة على إجراء البحوث النوعية (الجانب التطبيقي)، وتوفير مزيد من الحرية الأكاديمية المحفزة لإنتاج البحوث النوعية، بالإضافة إلى تسهيل إجراءات نشره ، وحصول الباحثين على المعلومات والبيانات اللازمة، وتوفير الدعم المادي للباحثين في مناهجها ، وإقامة ندوات ولقاءات بحثية للطلاب تخص البحوث النوعية وإجراءاتها، وتشجيع الطلاب على الإبداع والتجديد في مجال البحث التربوي وعدم التقيد بالنمط التقليدي في البحث، وتقديم دورات تطويرية لأعضاء هيئة التدريس لتطوير مهاراتهم في البحث النوعي، وتوفير مصادر معلومات متنوعة لدعم الأبحاث النوعية، مع بناء معايير واضحة ومحددة للحكم على الأبحاث النوعية.
بالإضافة إلى تشجيع الباحثين على استخدام المنهج النوعي من خلال الإشادة بالأبحاث النوعية على مستوى القسم والكلية والجامعة، وطبع عدة نسخة منها احتفاءً بها ونشراً لتصاميم البحث النوعي، وإعطاءها أولوية النشر في المجلات العلمية كامتيازات بحثية، وإحداث التوازن بين مناهج البحث الكمي والنوعي عند صياغة الخطط والبرامج الدراسية.
نأمل أن تسهم هذه المقترحات في تعزيز مكانة البحث النوعي في المشهد البحثي التربوي، ومن المهم التأكيد على أن الآفاق التي يفتحها البحث النوعي في مجال التربية لا تعني القضاء على البحوث الكمية ، بل هي دعوة إلى تقييم البحوث الكمية التي تزخر بها مكاتباتنا تقييما ًعلمياً، وتقييم ما أضافته من معرفة في المجال، وهي دعوة للجمع بينهما (المنهج المختلط) وفقاً للمشكلة البحثية والغرض البحثي.
** **
(1) النوح، مساعد. (2012م). توجهات الرسائل الجامعية في تخصص أصول التربية بالجامعات السعودية خلال الفترة (1411هـ - 1433هـ). مجلة كلية التربية ببنها
(2) اللحيدان، حمود. (2007م). اتجاه البحث التربوي في مجال أصول التربية بمجلة جامعة الملك سعود : دراسة تحليلية. رسالة ماجستير غير منشورة، كلية التربية، جامعة الملك سعود، الرياض.