د.فوزية أبو خالد
ذكرت في مطلع المقال الأسبوع أنني أكتب مقالي عن فوز أميمة الخميس على حلقتين من رسالة واحدة. وإن كان لكل حلقة منهما استقلاليتها وإضاءتها وخطها وحبرها وعتمتها، فهما جناحان لطائر المعرفة. في الحلقة الأولى كتبت الأسبوع الماضي عن فوز أميمة بجائزة نجيب محفوظ من ثلاثة أبعاد مع أنه كان يحتمل أكثر من ذلك. أما الحلقة الثانية فأكتب فيها اليوم قراءتي الخاصة لسر من أسرار هذا الفوز الزاهي.
الحلقة الثانية من سِفر أميمة/صفحة ليست أخيرة:
مع أنني أعرف أميمة منذ بواكيرها الإبداعية الأولى التي ابتأت مبكرًا قبل أن ألتقيها في ساحة جامعة الملك سعود بعليشة غرب الرياض بضفيرتها الأسطورية المتدلية عريشة خروب خلابة كثيفة متموجة من أعلى رأسها لكعب قدمها على امتداد تلك القامة الفارعة وكأن سموق النخيل عدوى أصابت ابنة التاسعة عشرة، فإن أميمة نادرًا في كل مرة ألتقيها أو أقرأ لها لم تفاجئني.
ومن أول مفاجاءاتها لي يوم درستها مقرر علم اجتماع الأدب كمقرر اختياري ضمن تخصصها في اللغة العربية وضمن تخصصي في علم الاجتماع الثقافي الذي يجمع بين علم الاجتماع السياسي وعلم اجتماع المعرفة بما فيه بطبيعة الحال علم اجتماع الأدب. فلم تكن أميمة طالبة تعاني فقط من هواية الأدب في قراءاتها الولهى لكل مقررات تلك المادة السردية والشعرية من رجال تحت الشمس لغسان كنفاني ونجران تحت الصفر ليحي يخلف والوطن في العينين لحميدة نعنع وحمى البراري لإبراهيم نصر الله وجنون الأمل لعبداللطيف اللعبي ووسمية ليلى عثمان ومطالع وأشواق رجاء عالم الغامضة الشائكة إلى شاعرية أمل دنقل الشرسة في ذلك الإباء الباذخ لقصيدة لاااا تصالح بمعادله الإبداعي لتمرد تجربة مجلة شعر من محمد الماغوط لسنية صالح وأمل جراح, بل إن أميمة كانت في تلك المرحلة المبكرة طالبة مريضة بالجمع القاسي بين موضوعية العلم منهجًا ونظريات وبين الطاقات الخلاقة لانحراف الأدب. فكان صبرها يفاجئني على قراءة كارل منهايم الفون جولدنار وجورج لوكاش ولوسيان جولدمان وصلاح فضل وسيد ياسين وآخرين. بل إن أجمل مفاجاءات تلك التجربة هي تلك اللعبة السرية الصاخبة التي كانت فيها أميمة تبادلني دور المعلمة الجامعية لننهل مع عدد آخر من طالبات ذلك المقرر لذلك الفصل الدراسي من عام 1986 من ذلك المعين الذي ليس له عمر ولا سقف وهو معين المعرفة الحرة.
ولم تكن آخر مفاجاءات أميمة لي على يد طالبة الماجستير تهاني الشمري وهي تدرس على يدي صورة المرأة في رواية البحريات والوارفة، فنعيد تفكيك صورة المرأة وتفاصيل الواقع الاجتماعي بجراحه وجبروته من خلال شخصيات غاية في البساطة والتعقيد كشخصية بهيجة ورحاب ونايفة والجوهرة وسوير وكرمان.
ولهذا لم يفاجئني فوز رواية أميمة الخميس مسرى الغرانيق في مدن العقيق بجائزة نجيب محفوظ فقد كان فوزًا متوقعًا وفوزًا مكتسبًا وفوزًا حل موسمه وحان وقت قطافه. وهي رواية تعنى بالتفاصيل الصغيرة وتهجس بشكل احترافي بالقضايا الكبيرة وأسئلتها الخطرة.
المفارقة أنني أرسلت لأميمة هذا الصيف وتحديدًا في شهر أغسطس 2018م من مدينة ليندو على الطريق البوفاري الأوربي لتداخل الحدود الألمانية السويسرية النمساوية صورة عبر الواتساب لروايتها بغلافها السماوي المتوهج بحمرة العقيق وخلفها قلعة ليندورف حيث تعرش على حجرها المقدود من قمم جبال الألب منذ أكثر من 800 عام بامتداد القلعة ضفيرة عاشقة الحرية الصبية روزنتال حسب حكايات الأخوة جريم ( GRIMM)S FAIRY TAILS).
فبينما كان يخيل لي أنني أحلق في ذلك الفضاء البوفاري المعبد بالغيوم كريشة طائرة، كان جسدي الواهي العنيد وروحي الحالمة النافرة تغوص من مشط قدمي لعظمة ترقوتي في الرمل على طرقات وعرة. فكنت بسيارة أسرية صغيرة مشحونة بضحكات الأطفال وبأسئلتهم وبما يساورهم من قلق ودهشة المجهول أغذ السير من أقصى نقطة بيمامة نجد لأعلى نقطة على قبة الصخرة بالقدس بمشتهاها وانكسارنا أمامها ثم أهبط حافية من هامة الأهرامات الفرعونية بمصر قرب نهر النيل لأمشي منتعلة الندى باتجاه منابع الهضاب على أرض الأندلس غير بعيد عن خرير نهر خنيل, تحملني ريح جارفة نحو منارات العراق وأهلتها الفيروزية بين دجلة والفرات. لا يشغلني في كل هذا المطاردة عن غليان الشعر في الوجدان وغليان الأسئلة في الضمير وغليان الفلسفة في العقل إلا محالاتي الحالمة لقص أثر رحلة مزيد الحنفي في التكشف المعرفي عبر سفر الزمان والمكان ومكائدهما وكمائنهما وكبدهما الأزلي. فكان المسرى بين فلوات الشمس ومدن العقيق وسواد البساتين ارتحالاً متواصلاً في لجة الحبر لعل بلادًا تدخل على يد امرأة موسوعة الخلود.