د.عبدالله بن موسى الطاير
دلف إلى المقهى محملا بأكياس التسوق المكتنزة بالهدايا، كان ذلك يوم الجمعة السابق للكريسمس. تبسم معتذرًا عن حضوره بأحماله، ليتهم السترات الصفراء بأنها صادرت منهم أيام السبت منذ ظهورها. صديقي الباحث والكاتب الفرنسي لم يكن محملا بالبضائع فقط، وإنما كان رأسه مزدحما بالأسئلة.
أبلغني أنه عاد للتو من المملكة، ولديه مشاهدات وأسئلة. لقد خرج بانطباع أن السعودية موحدة حول الملك وولي عهده، وكان سؤاله إلى متى سيتمسك الشعب السعودي بهذه الروح القتالية دفاعًا عن الأسرة الحاكمة؟ قلت له هذا هو «السر» السعودي. لقد سألتني صحفية أمريكية تعمل في صحيفة كريستن ساينس مونيتور Christian Science Monitor عام 2005م في فندق الخزامى بالرياض: ما تصورك لمستقبل الحكم في السعودية بعد عشر سنوات؟ أجبتها آنذاك بأن العلاقة بين الملك وولي عهده وبين الشعب السعودي علاقة مقدسة يصعب على أي محلل سياسي أجنبي مهما بلغ علمه وشمخت خبرته أن يحيط بها. إنه رباط روحي يمكن تسميته «بيعة»، أو شراكة في المصير، وبلغة الطب علاقة سيامية بين روحين تسكن جسد المملكة لا يمكن الفصل بينهما. حينئذ كان الملك فهد، وبعده جاء الملك عبدالله -رحمهما الله-، والآن نحن في عهد الملك سلمان وولي عهده، وقد مضى على ذلك السؤال نحو 13 عاما، وما زال الشعب السعودي متوحدًا خلف قيادته. السعوديون يمكنهم تفهم وجهات النظر الأخرى إلا عندما تمس الملك وولي عهده، عندها لن تجد سعوديًّا واحدًا مستعدًّا للتفاهم. وقلت له كان على نفس مقعدك بالأمس صحفية مقيمة في باريس تعرفها جيدًا، وهي زميلة لخاشقجي -رحمه الله-، ومع ذلك رفضت الحديث لقناة الجزيرة عن أزمة خاشقجي لأنها وجدت أن القناة لا تبحث عن الحقيقة بقدر ما تستهدف ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان.
كان منهمكًا في الكتابة وكأنه يسمع هذه المعلومات لأول مرة. ثم رفع رأسه قائلا هل أنت مقتنع بالرواية السعودية؟ قلت له نعم. فقد كان باستطاعة السعودية أن تمنع دخول قنصليتها، وأن تصمد على ذلك شهورًا، ويمكنها اصطناع أزمات تشغل العالم وتهمش الاهتمام بالقضية. ولكنها آثرت التحقيق في تسريبات وسائل الإعلام دون أن تتلقى معلومة واحدة بشكل رسمي من تركيا ووفق القواعد القانونية في تبادل المعلومات المتعلقة بالجرائم العابرة للحدود. أوقفت السعودية المتهمين، وطالبت النيابة العامة بالقصاص من خمسة منهم. وأنت تعلم يقينا أن أجهزة استخبارات الدول في العادة تكافئ منسوبيها في عمليات كهذه وتحصنهم ضد المساءلة. وضربت له مثلا بالمعاون الأمني للرئيس ماكرون ألكسندر بينالا الذي ظهر وهو يضرب أحد المتظاهرين بوحشية، ومع ذلك لا نعلم أنه قدم للمحاكمة -وذلك قبل ظهور فضيحة أنه يتنقل حول العالم بجواز سفر دبلوماسي-، كما أن ضابط المخابرات الأمريكي أوليفر نورث الذي كان يعيد طائرات السلاح من أمريكا اللاتينية محملة بالمخدرات، لم يحاكم وهو الآن أحد المعلقين السياسيين على التلفزة الأمريكية.
ربما لم يرق المثالان لصديقي، ولكنهما أيقظا شيئًا في ذاكرته، ليسألني: هل فشلت رؤية السعودية 2030؟ قلت له: لأ. الرؤية ليست غاية لتنجح أو تفشل، وإنما هي طريق نحو المستقبل، وعلى الطريق قد يطرأ بعض الضباب أو الغبار، فيربك السير ولكنه لا يوقف القافلة. لقد حشدت الرؤيةُ السعوديين كلهم نحو هدف وحيد وهو تقدم السعودية وازدهارها في كل المجالات، ونسير الآن في طريق الرؤية خلف ولي العهد وسنصل إن شاء الله. نحن لا نغفل أننا نؤثر ونتأثر بما حولنا، ولكننا نتمتع بالمرونة الكافية والخطط البديلة التي تبقي الرؤية في طريقها.
سألني أخيرًا: مقالتك عن الهواية والاحتراف في إدارة التغيير، هل أنت مع الرؤية أو ضدها؟ قلت له: الرؤية خيار وحيد نحو تحقيق طموحاتنا وتطلعات جيلنا الشاب، وليست مقالتي فقط مع الرؤية، وإنما كل جهدي واهتمامي مؤيد للرؤية. أحيانا يجعلنا الحرص على سلامة مخرجاتها نطرح الأسئلة الصعبة، ليس للبحث عن أجوبة، وإنما لتذكير مسؤولي الدولة المشاركين في تنفيذها بأن هذه الرؤية وما يصاحبها من تحولات يجب أن تنجح وأن تحقق غاياتها، وأن نكون دائمًا جاهزين لأي مفاجئة قد تحرفها عن مسارها لا سمح الله.