د.عبد الرحمن الحبيب
تذهب إلى «يوتيوب» لتختار مشهداً طريفاً، ستجده اقترح لك خيارات أذكى من كل مهارات دماغك، لأنه ينتقي من خياراتك السابقة التي ربما نسيت بعضها، ومن مجموعة ضخمة لآخرين لديهم ما يشبه خياراتك.. وإذا كنت تبحث عن سلعة لشرائها ستجد الرقميات الذكية رشحت لك ما ترغبه بناء على المواقع التي اعتدت تصفحها.. وإن كنت تبحث عن تحليل للأخبار فالخوارزميات ستؤمن لك ما يريح قناعاتك ويدعم آراءك المسبقة وستظل مطمئناً على ما أنت عليه..
صار الذكاء الاصطناعي يخطط لنا حياتنا بالشراء والمشاهدة والقراءة أو حتى بطلب المشورة بشتى مجالات الحياة.. فهناك مواقع إلكترونية باستطاعتها تشخيص بعض الأمراض أفضل من الأطباء، وتقدم مشورة قانونية للقضايا العامة أفضل من المحامين حتى صار المحامون الشباب بأمريكا لا يستطيعون الحصول على عمل حسب مجلة فورتشن الأمريكية.. باختصار، الحواسيب أصبحت أكثر معرفة بالعالم من الإنسان الذي اخترعها، وأذكى من العباقرة في مجالهم. كل ذلك رائع، لكن ثمة ثغرة قد تكون خطيرة بكثير من أنواع أخرى للبحث عن الخيارات كما في المجالات الفكرية والاجتماعية والثقافية والفنية والرياضية، لأنه يعطيك أريح الخيارات وأقربها لرغباتك.. فما المشكلة بذلك؟
المشكلة هي بطريقة بحث الرقميات؛ فرغم أنها تقوم بعمل عظيم لكنه ناقص، حيث تتم عملية الترشيح بالاستناد على بيانات سابقة لك ولمن يشبهك بالخيارات، وهذه مهمة أساسية للوصول للخيار المطلوب إلا أنها تحجب عنك ما يطرأ في المجال من تغيرات مفاجئة وأفكار مختلفة لم تمر عليها ضغطة زر أصابعك. هنا، نتعرض لعملية توجيه لمسار محدد هو ما اعتدنا عليه من خيارات داخل منطقة الراحة المحيطة بنا، فلا يحفزنا على الإبداع بل يكرس المألوف لدينا، وقد يحجب الفرص الجديدة المهمة لاتخاذ الخيار المناسب. فإذا كنتُ لا أفتح إلا على المواقع التي لها نفس الفكر والتصور والذائقة فسأتقوقع في عالمي الخاص مضعفاً العوامل المساعدة للتطور والابتكار..
الأدهى، أنها تشجع على الاستقطاب والحدة تجاه الآخرين لأنها تعرقل عملية تعلمنا للجديد وفهمنا للآخر.. فنحبس أنفسنا في فقاعة لا نسمع بها آراء ولا أفكارًا تختلف عن آرائنا وأفكارنا.. فتضيق صدورنا قبل عقولنا تجاه الآخرين.. يقول البروفيسور سيدني فينكليشتاين: «لا يمكن الاستهانة بتبعات العيش في قالب نمطي تضعه لنا خوارزميات البحث، فنحن ندفع الثمن فكريًا واجتماعيًا. ولنأخذ مثالاً من الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة، حيث قيل إن حالة الاستقطاب السياسي الحاد ترسخت وأصبحت جلية للعيان، وذلك لأنه كلما بحث الناس عن أدلة إثبات لتؤيد ما تأصل لديهم من معتقدات، وجدوا أنفسهم في دائرة مغلقة من الأفكار والمعلومات الداعمة لأفكارهم.»
حتى لو كنت باحثاً علمياً جاداً معتداً بموضوعيتك وسعة اطلاعك، وتظن أنك مستقل تماماً في دراستك، فستؤثر اقتراحات الرقميات على خياراتك بصورة أو بأخرى إن لم تجد مخرجاً من دائرة خيارات الذكاء الاصطناعي إلى فضاء واسع من خلط الذكاء الصناعي مع الطبيعي..
إذن، كيف نتجنب الوقوع بفخ خيارات الذكاء الاصطناعي؟ الذين اخترعوا هذا الذكاء هم بشر أذكياء، لذا منهم من قام باختراعات تحد من سلبياته بوضع بضعة خيارات مخالفة لسياق ما اعتدت عليه، في بعض المواقع، لكنها لا تزال محدودة التأثير، إنما ثمة مواقع أفضل تعرض الآراء المختلفة في المواضيع المثيرة للجدل بقالب مهني محايد.. وثمة تطبيقات تقترح لك خيارات فنية (موسيقية مثلاً) جديدة غير خياراتك السابقة التي مررت عليها..
الأسهل من كل ذلك طريقة يعرفها كثير منا، وقلما نستخدمها لأسباب مختلفة كضيق الوقت أو الكسل الذهني أو المزاج مع ضغوط الحياة اليومية، وهي القيام باختيار مختلف عن العناوين أو الكلمات المعتادة في بحثك بذات الموضوع.. هذه ستؤدي للخروج من الدائرة المغلقة ومن إطار الأفكار المعتادة سواء كنت تبحث عن موضوع ثقافي أو سياسي أو قصيدة أو أغنية.. إلخ. فمثلاً، إذا أردت مشاهدة فيلم كوميدي فضع عناوين أفلام لم تعتد اختيارها، فستبحث لك الرقميات في مدى أوسع من الخيارات وتتيح لك فرصة لاكتشافات جديدة، وقد تفاجئك بأجمل أو بأقبح مما تتوقع لكنها ستفتح لك الأفق لرؤية أفضل..
كثير منا حصر نفسه ثقافياً في «غرفة صدى» لتكرار رغباته وترديد قناعاته مع أشخاص يشابهونه، ويقابلها غرفة أخرى لأشخاص يخالفونه.. الغرفتان تعيشان في عالمين مختلفين، لا يرغب أي منهما فهم الآخر أو الاعتراف به.. «غرفة الصدى» شاعت بالاصطلاح الإنترنتي كتشبيه لحالة في وسائل التواصل الاجتماعي يتم فيها تعزيز المعتقدات الفئوية عبر التواصل داخل فئة منغلقة تكرر أفكارها وتضخمها، عبر ممارسة غير واعية لما يطلق عليه بعلم النفس الاجتماعي «الانحياز التأكيدي» لتزيد الاستقطاب الثقافي والاجتماعي..
الإنترنت يمكنه إطلاق عقلك كفراشة تسرح في حقول رحبة بين مختلف الزهور العطرة، أو يجعلك تتقوقع في شرنقة ضيقة تزدحم بأنفاسك مع زهرة واحدة أو زهور من نوع واحد.. أنت من يختار، أما الإنترنت فوسيلة محايدة، والذكاء الاصطناعي لا يخدعنا بل يسمح لنا بخداع أنفسنا كما يسمح لنا بالخروج من دائرة هذا الخداع.. وفي النهاية أنت صاحب القرار!