إن حاجة الناس إلى الأقوات، دعت كل واحد منهم إلى السعي في اقتناء قوته من الوجه الذي ألهمه الله قصده وسبب رزقه من وجوه المطالب وسبل المكاسب.
ولما كان الناس في باب المعيشة صنفين:
صنفاً مكفيًّا سعيه برزق مهنأ سبب له من وراثة، وصنفاً محوجاً فيه إلى الكسب، ألهم هذا الصنف التسبب إلى الأقوات بالتجارات والصناعات وكانت الصناعات أوثق وأبقى من التجارات؛ لأن التجارة تكون بالمال والمال وشيك الفناء، جسيم الآفات كثير الحوائج.
فإذا حاز الإنسان ما اكتسبه فإن من السيرة العادلة في ذلك أن يكون بعضه مصروفاً في الصدقات والزكوات وأرباب المعروف وبعضه مستبقىً مدخراً لنوائب الدهر.
فأما الزكوات والصدقات فينبغي أن يكون إخراجها بطيب النفس وحسن النية وانشراح الصدر والثقة بأنها العدة ليوم الفاقة وأن يجعل ذلك خاصًّا لوجه الله ذي الجلال والإكرام فلا يستثمر له شكراً ولا يترصد له جزاء.
فأما النفقات فإن سدادها وإصلاح أمرها بين السرف والشح ومتردد بين التصنيع والتقدير.
فلهذا ينبغي للعاقل أن يبني بعض أمره في الإنفاق على عقول عوام الناس وأن يستعمل كثيراً من التجوز والإغضاء في المواضع التي يخشى فيها شبه السرف وعار التصنيع. فإن مَنْ يمدح السرف من العوام أكثر ممن يمدح الاقتصاد ويؤثر التقدير كما أن مَنْ يمدح الاقتصاد ويؤثر التقدير أخص وأتم عقلاً وأحزم رأياً.
فأما الادخار فلا ينبغي للعاقل أن يغفله متى أمكنه، فإن الإنسان متى فجأه صرف الزمان بحاجة لم يكن مستظهر الحال فوق حاله واضطر إلى الاستعانة بالحال الحاضرة، فيقصمها عروة عروة حتى يبقى معدماً والله ولي الكفاية وحسن الدفاع.
إن ما ينبغي على المرء أن يتأمل وجوه الدخل ووجوه الخرج، ويستقصي النظر في أسباب الدخل والوجوه التي يمكنه استجلاب المال منها إلى مُلكه. وأن يكون خرجه بحسب دخله، ويجتهد أن يعرف بالسخاء، وليس السخاء بذل الأموال حتى ينفد وحيث أنفق، لكن بذلها ينبغي وبالمقدار الذي ينبغي على سبيل الاعتدال اللائق بحال طبقة من الناس!
** **
المستشار الاقتصادي