د. خيرية السقاف
كانوا يترحَّلون، حيث منابت العشب، ونبع الماء، وبسطة الطبيعة في تجليها العظيم..
كانوا يضربون الخيام حيث يحلُّون، يشاطرهم المكوث ضرعُ لبن، وظهر بعير، وصداح ديك،
ونسمات معبَّقة بالهال والبن، وجمر يتقد تحت أثافي ثلاث..
الفطرة فيهم يقظة يحبون بصفاء، يحفظون بعضهم بحمية، يتنافسون في اعتداد، يتحلّون بمكارم لا تُحصى كالتي تحتويهم سماء عالية كهممهم، ممتدة كأحلامهم، واسعة كصدورهم، صافية أو غائمة ظروفهم، وكالتي في امتداد المنبسطة بين أيديهم، ومدى خطاهم، في المرتفع كأوتاد خيامهم، وفي المنخفض كمراعيهم، ونُزُلِهم، وفي اللدن بعد الغيث يفرحهم، وفي القاسي كالحجر يشعلون فوقه غذاءهم..
كأنهم الطبيعة التي حولهم..
صدح كفسحتها وتنوّعها شاعرهم، وأفضى كصريحها راويهم، وأشجى كأنين ريحها حاديهم، وأبكى كبينهم حزينُهم، وأضحك طرافةً ظريفُهم، عزَّ منافهم، وذلت الوضاعة بينهم..
الحياة لهم حياة، مع شظفها، وقلتها، وصعوبتها، ووعورتها..
سقف خيمة أدفأ بهم من سقوف أسمنتية على رؤوس من أعطى الطبيعة ظهره، وسوَّر نفسه داخل علب حجرية بُنيت على أماكن نبتٍ كانت لهم موطناً، وفسحات عشبٍ كانت لهم مراعيَ، ومنابت قطرٍ كانت لهم موارد!
لم يعد نور القمر، ولا لألأة النجوم فتيلاً للمخيلات، ولا محرضاً للعبارات، ولا عازفاً بالشجيِّات، ضحايا الأسمنت، والزجاج، والخشب تضيق أنفاسهم بعوائد تلوثهم في الطرقات، والمخابئ، والسفرات..
هناك في البقع التي تليق بالطبيعة لأن تتنفس، وللعشب لأن ينمو، ويمتد، وللشجر لأن يكبر يهرم وهو واقف لا ينحني، وللعصافير لأن تغرّد وهي تستنشق هواءها النقي، ولأصداء البعيد، وانعكاسات النور، ولمخاتلة المخيلات، واستدرار المشاعر..
لا يزال للخيمة عزها، بقاؤها ووتدها، وصفير الهواء يتسلّل من شقوقها لينزل بالقلوب الرهيفة لتشجو..