د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
لو بدأ المرء عمره ببناء عقلي مكتهلٍ مكتملٍ لما عبئَ بأكثرِ ما أرّقه وأقلقه، ولما استجاب لدوائر الصراعات العبثية التي تخترق ذهنه وتُحرق ملامح الارتياح خارجه وداخله، ولرثى للمتهافتين حالَهم، وأكبر للزاهدين اعتزالهم، وأيقن أن مخادنة الهدوء سكينة والإعراضَ عن السفاهة يقين، والضدُّ حين تعبر به السنون فيبقى في الزحام ويسمر في الظلام، ولا تعنيه سمةٌ ولا صلة وإن غادرته مياهُ الحياة.
** سنتفق تنظيرًا وقد نفترق ممارسةً دون أن تستعبدنا مراحلُ العمر المنصرم لتأطرَنا في زواياها الحادة والمنفرجة؛ فالأمس ينتهي ولا يعود، والغد يتمدد بالوعود، ومن يبكُون أو يتباكون على ماضيهم يقتاتون وهمًا، ومن يحلمون بالآتي يزدادون همّا، ومن يحيا يومه واجهةً لواقعه ومواجهةً لموقعه سيكون أكثر طمأنينة، وفي المشاهدات المجتمعية فإن للفرد زمنًا افتراضيًا ينتهي قبل أن يغادر الدنيا، وقد يبلغ في سنواته مدىً يتيهُ فيه وجودُه الفاعل فما يدري مكانَه ولا يحتفظ بمكانته؛ ليصير الدفنُ حيًا خاتمةَ المسار.
** هنا نبلغ مفهومًا يكاد يغيب عن ساحتنا الثقافية - بالأخص- والمجتمعية - بشكل عام- وهو مصطلحُ «المديونية المعرفية» المعنيُّ بالالتزام الأخلاقي والمعنوي تجاه من قدَّموا إضاءاتٍ ثقافيةً ذاتَ تميز؛ فكما ندين لوالدينا بالتربية ولمعلمينا بالتعليم فإن لذوي العطاء الفكري «الحقيقي» -الذي لا يُحسب بعدَّاد العمر بل بنوعية الإنجاز وقيمة المتحصل- حقًا على من أفاد منهم، والأمر ذاته لباذلي نفوسهم ونفائسهم لخير المجتمع وخدمته، وهو حق عينيٌّ يمس الفرد ولا يرتبط بوسائط التكريم سواءٌ أجاءت من الأجهزة الرسمية أم المنتديات الشخصية؛ فقد تكون لهذه وتلك حساباتُها الخاصة التي تفرض عليها شكلاً محددًا أو شخوصًا معينين.
** هناك أناس يألفون المساحات الخلفية فيرغبون عن التصدر والتمظهر غير عابئين بمترتبات الجاهيَّة والواجهية ليحتملَ المجتمعُ «الخاص والعام» الدَّين المعنويَّ نحوهم خلال وجودهم وبعد رحيلهم، وإن بدا ذلك مشابهًا للديون المعدومة التي لا تجد من يدفعُها ولا من يدافع عنها.
** استبعد «جورج أورويل 1903-1950 م» - في روايته المعروفة 1984 – أن يُكتب التأريخُ بصدق جازمًا أن معظم ما دُوِّن منه كذب، ولم يكن في منطقه بدعًا؛ فقد سبقه كثيرون كتبوا وتحدثوا عن «أوهام وأغلاط وأكاذيب وتزوير وتزييف وابتسار وتشويه» التأريخ الإنساني بصورة مطلقة، وقد حدد ابنُ خَلدون 732-808 هـ(1332-1406م) أسباب ذلك في مقدمته، ولأن الحديث هنا عن المديونية المعرفية والمجتمعية فلا مكان للمزيد حوله إلا للتساؤل حول الناس -عبر أزمانهم وأوطانهم- ممن يقرأُون تأريخًا مشكوكًا في بعض نصوصه أو يتعايشون مع فئامٍ مبالَغٍ في توصيفهم؛ فلمن يَدينون بما يُلزمهم به ظرفُ العطاء وواجبُ الوفاء؟! وكيف؟! وأين؟! ومتى؟!
** يطفو العلَق فيضيء الغسق.