د. فوزية البكر
رغم بساطة كلمة التسامح وسهولة معناها كما نتلقاها في حياتنا اليومية إلا أن التعمق فيها يستدعي الكثير من الأفكار والتساؤلات التي يثيرها هذا المصطلح. فماذا يعني أن تكون متسامحًا؟ هل يعني هذا أن تغفر زلة الآخر وتتسامح معه؟ وعن أية زلة؟ من أي نوع وعن ماذا نتسامح؟ هل يستلزم هذا تسامحًا (أخلاقيًا) يجيز مثلاً التسامح مع الظالم أو المتعصب أو المتطرف الخ؟
ماذا يعني الآخر أيضًا؟ هل يعني المحيط بنا حسيًا وبشكل مباشر ممن نتعايش ونتفاعل معهم، أم أن الآخر يعني ذلك الفضاء الواسع العام من حولنا، بشرًا وثقافات وأديانًا واختلافات تراكمت تدريجيًا عبر تاريخ البشرية الطويل؟
ماذا يعني التسامح مع الذات؟ هل يعني وعينا بأخطائنا ومن ثم محاولة التصالح مع ذواتنا رغم نقائصها من أجل تحقيق سلام داخلي؟ أم يعني تجاهلنا لهذه النقائص ومحاولة القفز فوق التفكر في محددات قدراتنا كي لا يعطلنا ذلك عن الاستمرار في المسيرة الحتمية لحياتنا اليومية؟
يري المفكر النمساوي كارل بوبر أن الدعوة إلى التسامح يجب أن تقف عند حدود (عدم التسامح) مع أشكال محددة من الأفكار أو أنماط السلوك التي قد تهدد ما سماه (المجتمعات المفتوحة)، وعلى رأس ذلك فكر التطرف أو التعصب: (هل كان بوبر يدرك ببصيرته النافذة حين قال ذلك في خمسينيات القرن العشرين أن مجتمعات القرن الواحد والعشرين ستكون ضحية بشكل ما لتسامحها مع بعض أفكار التطرف التي قلبت الدول والمجتمعات اليوم وحولت حياتنا اليومية وتنقلاتنا وسفرنا إلى جحيم من الإجراءات الاحترازية والتفتيشية في كل بقعة ومطار ومستشفى وساحة تسوق ومدرسة الخ).
بوبر الذي غادر عالمنا عام 1989 والذي كان يؤكد (حرية الشخص في الانفراد بصفة من الصفات، وحريته في الاختلاف عن جاره، وحريته في عدم موافقة الغالبية والسير في طريقه الخاص)، أكد أن من الخطر التسامح مع بعض الأفكار التي قد تهدد المجتمعات المنفتحة والديمقراطية وعلى رأسها أفكار التعصب والتطرف!
ماذا نقول أذن ونحن في الشرق الأوسط نعيش أتون التطرف المذهبي والعرقي والديني بما هدد استقرار الشعوب وشرد الملايين في حين راحت ملايين أخرى ضحايا بلا سبب؟
هل نملك حق التسامح وسط بيئة كهذه؟
نعم، وهذا هو ما يجب أن نفعله تحديدًا لأننا ببساطة لا نملك حلولاً أخرى لإيقاف الآلة الجهنمية للكراهية والعنف في شرقنا الأوسط سوى أن نكون متسامحين مع الآخر حولنا أو في محيطنا العام رغم الوعي بالمحركات التاريخية والثقافية للكثير من الأحداث الجائرة إلا أننا لا نملك ونحن نستقبل عامًا جديدًا إلا أن نؤكد ضرورة خلق حس المسؤولية التاريخية والشخصية بقوبل الآخر على اختلافه وتعلم فكرة التسامح بأنماطه المختلفة الفكري والعرقي والديني والسياسي بما يعني القدرة على التعايش رغم الاختلاف في الأعراق أو نوع الجنس من ذكر وأنثي أو الدين أو المذهب أو الملة أو اللون، إذ لا نستطيع الاستمرار في صراعات الهويات الصغيرة إذا أردنا لهذه الأرض أن تكبر وتزدهر علميًا وبشريًا إلا بعدم الالتفات إلى الوراء وعدم جر أثقال التاريخ وتعلم التسامح والنسيان إلا مع الأفكار المدمرة للحضارة الإنسانية مثل التطرف أو عبادة الآلة أو استغلال العلم للإضرار ببقاء الجنس البشري على كوكب الأرض.
نحن نتعلم التسامح حين نتعايش معه كممارسة، وحين توجد القدوة التي نتمثل بها مما يعني ضرورة غرسه وتعليمه للأجيال الشابة في المدارس والجوامع، وهاتان الحاضنتان هما الأخطر على الإطلاق حتى ربما أكثر أهمية من الأسرة نفسها مما يعني ضرورة التفكر في الوسائل الفكرية الحديثة المناسبة للاستغلال الأمثل لهاتين القناتين الخطيرتين في بُعدهما وتأثيرهما في باقي المؤسسات الاجتماعية بما يساعد في ترسيخ فكرة التسامح وقبول الآخر ونشر الأمن والسلام.
عام جديد من الصحة والمحبة والتسامح مع النفس والآخر. كل عام ونحن وطن أمن مستقر.