د. حسن بن فهد الهويمل
كغيري أقطع بأن الحق معي، لا يحيد عني قيد أنملة، وأنه لا معقب لما يَرَى قبيلي.
- قال لي مخالف:- أنت ومن معك ترون أنكم [الطائفة المنصورة]..!
- قلت:- ولو اعتقدت غير ذلك، لوجب علي البحث عن [الطائفة المنصورة] لأَتَّبِعها، إذ لا يسعني غير ذلك.
اعتقادي المجرد من الهوى، والأثرة لا يخلق المشكلة، ولا يعقد الأمور. الإشكالية ليست في تنوع الرؤى.
الإشكالية في التَّقَيُّدِ للتعصب، والارتهان لاحتكار الحقيقة، وعدم القدرة على ترك الباب مفتوحاً لمزيد من الاجتهادات.
الإشكالية في ضيق العطن، ونفي الآخر. لا بد من استعادة منهج السلف الصالح، أئمة المذاهب الفقهية، الذين شكلوا باجتهاداتهم، وتسامحهم تراثاً حضارياً، يقتات منه العالم كله.
أحد أولئك يقول:- قولنا صِدْقٌ يحتمل الخطأ. وقول غيرنا خَطَأٌ يحتمل الصدق. هكذا الرأي الحصيف، وهكذا أود أن نكون. تكاملٌ لا استبداد، وتعاون لا انفراد، واحتمال، لا قَطْع.
الثقة بالنفس تتيح الفرصة لتمكين المخالف من مساحة كافية للتحرك بحرية تامة، متى كان التعدد في نطاق الاختلاف المعتبر.
يقطع المجتهد العليم برأي، حتى إذا رأى خيراً منه عدل عنه راضياً مَرْضيّاً. والعاقل العالم المجرب من يبحث عن الحق، لا عن الانتصار.
التسامح أن تعطي المجادل حق الحديث بحرية تامة، حتى ينتهي، ثم تسمعه رأيك، وفي كل المواقف تبلغه مأمنه. أي تمكنه من حق الوجود الكريم، فذلك الهدي النبوي: قولاً، وعملاً:- {ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ}:-
كُلُّكُمْ يَمْشِي رُوَيْد ... كُلُّكُمْ يَطْلُبُ صَيْد
و[الصيد] هنا ليس الكسب المادي الذي عناه [الزاجر] وإنما هو تكريس الخطاب بالقوة، وإشاعته بالإكراه، وفرضه بالعنف، ومصادرة حق الآخر.
لا بأس أن يجتهد مكتمل الأهلية ما وسعه الاجتهاد لإبلاغ رؤيته، وإشاعة خطابه. هذا حق مشروع. ولكن البأس كله أن تُصادر حقوق الآخرين، وأن تفرض رأيك دون قبول للنقد، والمساءلة، والتقويم.
المشاهد تتسع لكل الخطابات. قل كلمتك، وامْضِ، فإن كانت حقاً، فرضت نفسها، وأخملت ما سواها. وإن لم تكن كذلك، فهي {كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ}. والخير كل الخير أن تتخلص من استبطانها. وأن تدع للمتلقي فرصة الإجهاز عليها، لأنها لا تستحق الوجود.
الحق -في النهاية- ضالة المؤمن.
ومن كان همه البحث عن الحق، فإنه لا يقدس أفكاره، ولا يمنحها قيمة ذاتية ثابتة. القيمة للحق وحْده، لأنه القيمة المعنوية الثابتة. {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ}، و{وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً}، {وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا}.
ماسلف توطئة للدخول في مضائق، وشبهات العالم العربي، والخلوص من عقابيل خلط الأوراق، المتمثلة بخروج [أمريكا] من [العراق]، و[أفغانستان]، وأخيراً من [سوريا]، ومن قبل سحب البطاريات المضادة للطائرات، والصواريخ من الشرق الأوسط. والعمل على تصعيد الأحداث، بحيث تظل بؤر التوتر في اتساع، واشتعال.
قدرنا الأصعب يكمن في غفلتنا المعتقة، وخوفنا المصطنع من بعضنا، وجهلنا، أو تجهيلنا بما يجري من الفرقة، والتناحر.
الشعوب العربية قادرة على الارتداد للداخل، وكف الأذى عن بعضها، تنفيذاً لأمر من لا ينطق عن الهوى:- [عَلَيْكَ بِخُوَيْصَةِ نَفْسِكَ].
ضاع [العراق] بسبب اختلاف وجهات النظر، وتواطؤ الغرب المستبد مع [المجوس] الممتلئ أحقاداً، وضغائن.
لقد مُكِّنَ له في أرض السواد، أرض الحضارة، والعلم، والعلماء، ومأرز القومية، والتعددية الفكرية، [بغداد لرشيد].
فمارس فيه القتل الهمجي، والإذلال النفسي، وفرض القومية الفارسية، والرفض المجوسي.
وضاعت [دمشق] الأمويين حين حَوَّلها الغرب الماكر، والمجوس الحاقد إلى حلبة صراع، يتعاقب عليها المصارعون من كل حدب، وصوب. إذ كلما أُنْهِك فريق، خلفه فريق آخر.
وضاع [اليمن] التعيس حين امتدت إليه اليد الطائفية الملطخة بالدماء، لتحكمه بالحديد، والنار، والتآمر.
وضاعت [لبنان] بلد الحرية، والطبيعة، والكفاءات البشرية، حين استشرت فيها الحزبية، والطائفية، واندست في أرجائه أفاعي المجوس.
لقد مَكَّن لذلك كله في أرض العروبة، تمسك كل حزب برأيه، وفَرَحَه بإمكانياته الوهمية:- {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}. وسعيه لتغليب مصالحه، وإجهاض رأي شريكه في السفينة.
لقد شغلتنا التوافه، ومهدت للأعداء طريق التوغل في حمانا.
نحن أمة لنا تاريخنا، وحضارتنا، وأمجادنا، وأبطالنا، لا تنقصنا القوة، ولا المعرفة، ولا الشجاعة. والموغلون في إيذائنا كانوا من قبل من رعايانا، وتحت سلطاننا:-
كَمْ صَرّفَـتْنَا يَدٌ كُـنَّا نُصَرِّفُها ... وَبَاتَ يَحْكُمُنَـا شَعْبٌ مَلَكْنَاهُ
ويْحَ العُرُوْبَةَ كَانَ الكَوْنُ مَسْرَحَهَا ... فَأصْبَحَتْ تَتَوَارَى فِي زَوَايَاهُ
داؤنا في الأثرة، والتشدد والإصرار على الرأي، والخوف المصطنع من بعضنا. دعونا نتحول مِنَ الصِّدام إلى الحوار، ومن التنازع إلى التداول، ومن الأثرة إلى الإيثار. ومن التشاؤم إلى التفاؤل:-
إنْ كُـنْتَ مُـكْتَئِبَاً لِعزِّ قَد مَضَى … هَيْهَاتَ يُرْجعُه إليك تَنَدُّمُ
أوْ كُنْتَ تُشْفِقُ مِنْ حُلُولِ مُصِيبةٍ … هَيْهَات يَمْنَعُ أنْ تَحُلَّ تَجَهُّمُ
إن بإمكاننا إيقاف هذا التدهور، وبإمكاننا رحيل الأعداء من أرضنا، وبإمكاننا ترتيب أشيائنا بأيدينا.
[غاندي] حرر الهند، ولم يُرِقْ قطرة دم، ونحن هيأنا أنفسنا لعدونا نَسْفِكُ دماءنا بأيدينا:-
{إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ}
دعونا نفكر بأسلوب التغيير، إنه لا يحتاج إلى مال، ولا إلى سلاح:- {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}.
فقط أن نَطَّرِحَ الحزبية، والطائفية، والتشدد، والتشرذم، وسوء الظن، وأن نمنح أنفسنا الثقة، ورحابة الصدر، والقبول بالرأي الآخر. أن نشيع التسامح، والتعايش، والتصالح، والتعاون.
أن نلتزم بميثاق: {لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ}. بهذه المبادئ يرحل الوباء، وبها نوصد الأبواب في وجود المرتزقة، والأعداء.