د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
«أرامكو» شركة الزيت العربية الأمريكية هي إعادة لتسمية شراكة حكومية سعودية مع شركة كاليفورنيا ستاندارد أويل كومباني (كاسوك) في عام 1944 مع استمرار تصدير النفط من المنطقة الشرقية للمملكة الذي بدأ ببئر صغيرة قريبة من الظهران، أسماها المغفور له الملك عبدالله «بئر الخير»، وكان ذلك فاتحة خير للمملكة والمنطقة. ولا شك في أن ذلك هو الحدث الأهم، ليس في تاريخنا الاقتصادي فحسب، بل ربما في تاريخ الطاقة العالمي.
بدأت أرامكو شركة أمريكية صغيرة بشكل ومضمون أمريكي في وسط أمي جاهل ومتخلف. وكان من ضمن اتفاق الامتياز للشركة، الذي كان متقدمًا وبعيد النظر حينذاك، أن تسهم الشركة في تطوير مرافق المنطقة الشرقية ومدنها؛ ليستفيد من خبراتها وخدماتها جميع المواطنين. وهذا إجراء متبع في كثير من الدول. وتسبب إنشاء أرامكو في نزوح كثير من شباب المملكة للمنطقة الشرقية للاستفادة من فرص العمل رغم تحفظ بعض أهاليهم، ورجال الدين في مناطقهم الذين اعتقدوا أن في ذلك تغربًا ومخالطة لغير المسلمين.
شيدت أرامكو أحدث الأحياء السكنية في أفقر المناطق الصحراوية، واختلط السكان المحليون ببشر جديد بأخلاق وسلوكيات جديدة في شواطئ وشوارع وأحياء مدن المنطقة الشرقية الوادعة. وهيأت أرامكو مساكن عمالية مكيفة، كانت رغم اكتظاظها أريح بكثير من المساكن التقليدية الحارة. وأتاحت الشركة لسريعي التعلم والتأقلم مساكن أرقى، وسمحت لهم بمخالطة الأمريكان مباشرة في السينمات والشواطئ. وكانت الرطانة بالإنجليزية الأمريكية الجنوبية شرطًا أساسًا لهذه الطفرة؛ فكانت الرطانة الأمريكية والشارب المحفوف سمات مظهرية لذلك الجيل، صاحبها بعض الاعتداد بالنفس الذي يصل أحيانًا لحد ازدراء الثقافة المحلية.
أسست أرامكو أول شبكة تلفزيون في المملكة، وأول سوبر ماركت، وأول مطار دولي، فكان تلفزيون أرامكو حديث كل من زار المنطقة. وتعجب الأهالي من صورة الهندي الأحمر المهيبة، دعاية «ميوشوال أوف أوماها»، التي توضع قبل بدء البث. وتذوق الناس لأول مرة اللوز المطحون «البينت بتر»، وخبز التوست، والهمبرجر، والدونات. واضطرت الشركة بُعيد افتتاح مطار الظهران لإيقاف الباب الآلي للمطار لانتشار المخيمات خارجه من السياح المحليين الوافدين؛ ليروا بأمهات أعينهم، ويجربوا الباب السحري العجيب الذي يتعرف على الناس، وينفتح لهم تلقائيًّا. هذه الصور الأسطورية لأرامكو رسخت في أذهان الناس حتى بُعيد تأميم الشركة بأمر الملك فيصل - رحمه الله - وسعودتها بالكامل عام 1988م؛ فتم تأميم الشركة اقتصاديًّا وإداريًّا، لكنه لم يتم تأميم صورتها الأسطورية في مخيلة الناس بالرغم من التطور الهائل في حياتهم، وإيفاد البعثات لعقر دار أمريكا ذاتها، وتوافر التوست واللوز المطحون والهمبرجر والدونات في كل زاوية، وفي كل التموينات.
أرامكو اليوم شركة ضخمة بحجم أسطوري، تتحكم في أكبر احتياطي نفطي عالمي، ودخلت مؤخرًا في تصنيع البتروكيماويات، وبيع وقود التجزئة.. وهذا أمر جيد، ولكن دورها التنويري تقلص، ولم تعد تواكب ما يطرأ في المملكة من تغير متسارع. فأرامكو، إضافة إلى دورها الاقتصادي، ظاهرة ثقافية واجتماعية فريدة في تاريخ مملكتنا الحبيبة، تستحق أن تُدرس.. فقد خرجت لنا مئات رجال الأعمال الناجحين الذين سبقوا عصرهم، وكثيرًا من التكنوقراط الذين تولوا مناصب قيادية في مختلف القطاعات، وليس فقط في القطاع النفطي. وتاريخ الشركة يستحق الدراسة لهذه الأسباب. ومعلوم أن جزءًا كبيرًا من قطاعات الأعمال في المملكة يتقاسمه موظفون قدامى من أرامكو، وشخصيات عربية، وفدت من عدن وحضرموت لمدينة جدة؛ إذ طوَّرت الإدارة البريطانية بشكل مماثل محيط ميناء عدن لحاجات مماثلة. وكانت عدن ميناء مزدهرًا ومتقدمًا تحت إدارة البريطانيين. وقد وفد كثير من أهالي عدن للمملكة بعد اشتعال حرب الاستقلال التي أتت بالقوميين والشيوعيين؛ ليدمروا عدن بسوء إدارتهم.
خلاصة الأمر: إن في أسلوب إدارة أرامكو القديم الذي ربط تحسن الإنتاج بتطوير المنطقة المحيطة صحيًّا وتعليميًّا دروسًا مستفادة في التنمية واستدامتها. ولو اشتُرط على الشركات التنموية الكبرى كافة العاملة في المملكة - وهي كثيرة - مساهمات تنموية في التعليم والصحة في مناطق امتيازاتها، بإنشاء معاهد مهنية، ومدارس تقنية، ومستشفيات نموذجية، وربما مراكز ترفيهية لسكان المناطق، تمامًا كما فعلت أرامكو، لتغيَّرت حال كثير من المناطق، كما تغيَّرت حال المنطقة الشرقية.