محمد بن إبراهيم الحسين
ازدهرت العلاقات التجارية بين ممالك سبأ وحمير وقتبان ومعين وحضرموت من جهة وبين حضارات ما بين النهرين والهلال الخصيب كالآشوريين والكنعانيين والفينيقيين والإغريق والمصريين من جهة أخرى؛ وكانت الجزيرة العربية نقطة اتصال بين حضارات الشرق والغرب، وممر تجاري لنقل البضائع بين الهند واليونان وروما؛ ولذلك أقامت الممالك القديمة في جنوب الجزيرة العربية عدداً من المراكز والمستوطنات والقلاع والحصون والحاميات العسكرية لتأمين القوافل التجارية وحماية حركة التجارة على طول الطرق التي تربط جنوب جزيرة العرب بشمالها، ومنها طريق التجارة القديم المسمى «طريق البخور» وهو معبر تجاري دولي يربط بين الشرق والغرب، يمتد من سواحل بحر العرب إلى سواحل البحر الأبيض المتوسط مروراً بالجزيرة العربية، وتستخدم الجمال لنقل البضائع على ذلك الطريق وتفرعاته..
ومن المحطات الرئيسة لطريق البخور مدينة «نجران» حيث يتفرع منها إلى ثلاثة فروع ومدينة «العلا» حيث يتفرع منها إلى ثلاثة فروع..
وينقسم طريق البخور إلى طريقين رئيسين: أحدها يتجه عبر نجد إلى العراق وفارس وشمال الجزيرة العربية، والآخر يتجه عبر الحجاز إلى منطقة العلا شمال غرب الجزيرة العربية ومنها إلى مدينة البترا ثم إلى سواحل البحر الأبيض المتوسط..
وتنقل القوافل العابرة عبر طريق البخور عدداً من المنتجات والبضائع ومنها البخور واللبان والتوابل وشتى منتجات الشرق لإيصالها إلى الغرب..
يبدأ طريق البخور من ميناء «قِنا» على ساحل بحر العرب مروراً بعاصمة قتبان «تمنع» ومنها إلى «مأرب» ثم إلى «نجران»..
ومن نجران يتفرع إلى ثلاثة فروع:
فرع يتجه إلى «هجر» وسواحل الخليج العربي شرق الجزيرة العربية..
فرع يتجه إلى «مكة» غرب الجزيرة العربية ومنها إلى «يثرب» ثم إلى «العلا» شمال غرب الجزيرة العربية..
فرع يتجه إلى مدينة «الفاو» في «وادي الدواسر» جنوب نجد ثم إلى «مدينة غيلان» في سدير وسط نجد..
ثم يتفرع إلى فرعين:
فرع يتجه لبلاد الرافدين..
فرع يتجه إلى العلا حيث عاصمة مملكة دادان شمال الجزيرة العربية ليلتقي فيها بالفرع القادم عبر الحجاز..
ومن العلا يتفرع طريق البخور إلى ثلاثة أفرع:
فرع يتجه إلى المدن الفينيقية في الشام على سواحل البحر الأبيض المتوسط عبر البتراء..
فرع يتجه إلى المدن الكنعانية في فلسطين على سواحل البحر الأبيض المتوسط عبر البتراء..
فرع يتجه إلى مصر عبر سينا..
وقد تحولت بعض الحاميات والمستوطنات إلى نواة لممالك مزدهرة كمملكتي دادان ولحيان، بينما ازدهرت بعضها لمدة محدودة ثم تحولت إلى أنقاض أثرية كمدينة غيلان في عودة سدير..
ومدينة تمنع عاصمة مملكة قتبان كانت مركزاً مهماً للقوافل على طريق البخور التجاري القديم الذي كان يمتد من الهند حتى سواحل البحر الأبيض المتوسط وصولاً إلى روما واليونان مروراً باليمن ونجد والحجاز والعلا والبتراء..
علماً بأن عرب الجزيرة العربية هم رواد التجارة عالمياً وأقدم من مارسها تاريخياً؛ حيث استأنسوا الجمال قبل آلاف السنين وكان ذلك كصناعة سفن وقطارات وشاحنات وطائرات الشحن في العصر الحديث، وقبل آلاف السنين كان يوجد في الجزيرة العربية مئات الطرق التجارية منها 17 طريقاً تجارياً رئيساً أشهرها طريق البخور..
والقتبانيون والمعينيون من أشهر المشتغلين بالتجارة باستخدام الجمال التي كانت عماد النقل البري، وكانت مراكزهم وحامياتهم التجارية تنتشر على امتداد طريق البخور الطويل، وفي تمنع عاصمة مملكة قتبان لا تزال إلى اليوم بقايا مسلة قتبانية نقشت على جوانبها أحكام التجارة وتنتصب في سوق المدينة كشاهد على ازدهار تلك العاصمة التجارية..
ومن أشهر ملوك مملكة قتبان:
شهر غيلان بن أبشبم.
بعم بن شهر غيلان.
يدع أب غيلان
حكم في النصف الأول من القرن الثاني قبل الميلاد، وهو أول من سك العملة الذهبية، وبنى مدينتي غيلان في جنوب ووسط الجزيرة العربية.
ورويل غيلان بن يهنعم.
ومدينة غيلان في عودة سدير إحدى المحطات الرئيسة على طريق البخور، بناها الملك القتباني يدع أب غيلان في منتصف القرن الثاني قبل الميلاد، وطريق البخور أحد طرق التجارة التي تربط جنوب الجزيرة العربية بشمال الجزيرة العربية والعراق والشام ومصر..
وقصر غيلان من المعالم الأثرية في عودة سدير، ويطلق على أطلال القصر وما حولها مدينة غيلان، والمدينة عبارة عن قصر كبير محاط بسور وله ملحقات حوله وجميعها مبنية بالحجر وما زالت جدرانه شامخة، وبداخل القصر بئر حفرت في الحجر وبقيت فوهتها، ويتناقل أهل عودة سدير منذ القديم أن في مدينة غيلان معبداً لا يتجه محرابه إلى مكة، وأن المدينة بنيت في العصور الجاهلية ما قبل الإسلام، وأن القصر بناه شخص يدعى غيلان، ويتضح من حجم القصر وموقعه أنه كان مركزاً يهيمن على إقليمي سدير والوشم، ففي العودة مدينة غيلان وفي أشيقر صندوق غيلان وهو أثر لبناء فوق جبل مشرف على أشيقر، ولم ينتشر ذلك الاسم إلا ولغيلان سلطة على تلك المناطق. وقد أورد ياقوت الحموي في معرض حديثه عن الفقي وهو اسم العودة القديم ما يلي: (وبها منبر، وقراها المحيطة تسمى الوشم والوشوم، ومنبرها أكبر منابر اليمامة) أي إن العودة أكبر من حجر (الرياض) وأكبر من اليمامة في الخرج؛ مما يدل على أن البلدة كانت مزدهرة وأن ذلك القصر كان محطة تجارية مهمة ومركزاًَ رئيساً على أحد طرق التجارة ومقراً لحكم المنطقة..
وقد عثر في مدينة غيلان على جرار فخارية متقنة الصنع عليها رسومات جميلة ذات ألوان زاهية، وتعبر تلك الجرار حسب وصفها على صناعة متقنة وقيمة فنية ومادية تدل على تأثر من صنعها وانتماء من امتلكها لحضارة راقية ومتطورة ومزدهرة، ونتيجة جهل أبناء البلدة الصغار لقيمة تلك الآثار فقد تم تكسير بعضها برميها بالحجارة وهي فوق الرفوف الحجرية، فيما نهب ما تبقى منها، مع الأمل أن تكون الجهات المختصة قد عثرت على بعضها أو أجزاء منها لما لها من قيمة أثرية وتاريخية مهمة..
وبناءً على تلك الحقائق التاريخية والمكتشفات الأثرية فمن الراجح حسب اجتهادي الشخصي أن «مدينة غيلان» في عودة سدير قد بنيت في حدود منتصف القرن الثاني قبل الميلاد -قبل نحو 2200 عام- كمركز للمنطقة وكمحطة رئيسة على طريق التجارة بين مملكتي قتبان ودادان. وأرجح بأن مدينة غيلان حملت اسم الملك الذي بناها وهو الملك «يدع أب غيلان» الذي ورد في النقوش القديمة بأنه رمم كذلك مدينته «ذغلين» أو «ذو غيلان»، ومدينة «ذغيلن» أو«غيلان» هي مدينة أخرى بنفس الاسم أنشئت في عهد «يدع أب غيلان» في حدود القرن الثاني قبل الميلاد. و«يدع أب غيلان» ملك من ملوك قتبان وهي مملكة قديمة قامت في جنوب الجزيرة العربية في حدود عام 500 قبل الميلاد، وعاصمتها مدينة تمنع، وكانت لها علاقات تجارية بممالك دادان ولحيان شمال الجزيرة العربية. وقد تم العثور على نقش ورد فيه أن الملك غيلان أجرى كذلك ترميمات في مدينة «ذو غيلان» «غيلان»، وكانت مدينة «ذغيلم» «غيلن» «غيلان» من المدن التي أنشئت في عهد الملك «يدع أب غيلان»، بناها في القرن الثاني قبل الميلاد عند معبد «عم ذي لبخ» الشهير الكائن في موضع «ذغيلم». وعثر على نص ورد فيه اسم «شهر يجل بهرجب بن هوفعم» ودون ذلك النص في نقش كتب عند اشتراك «شوشن» و«حمرم»، ابني «عم كرب» في بناء «محفد» لهما اسمه «غيلن» في أرضهم «طوبم» «طوب»، وتيمناً وتبركاً بذلك ذكرا أسماء آلهة قتبان واسم الملك المذكور. وللملك «شهر يبل يهرجب» ولد تولى الملك من بعده، اسمه: «وروال غيلن يهنعم» أو«وروايل غيلان يهنعم»، ومن المحتمل أن يكون هو «وروال غيلن» «ورو إيل غيلان» الذي وجد اسمه منقوشاً على نقود ذهب عثر عليها في مدينة «حريب»، ويعتقد بأن الملك يدع أب غيلان هو أول من سك العملة الذهبية..
ويردد أهل العودة مثل قديم عن «غيلان» باني «مدينة غيلان» يقول: (مات غيلان ما لقى للدنيا طرف). مما يعني أن غيلان المقصود كان ملكاً عظيماً ذا نفوذ واسع ويقوم برحلات طويلة ويقود غزوات بعيدة..
ومن الدلائل على أن «مدينة غيلان» في «عودة سدير» كانت محطة بناها القتبانيون على طريق البخور لحماية قوافلهم ما يلي:
1- الآثار المكتشفة في المدينة ومنها جرار تعبر عن حرفية متقنة وفن راقٍ ينبثق من حضارة متطورة ومزدهرة.
2- الزمن التقديري الذي بنيت فيه تلك المدينة الذي يتوافق مع العصر الذي ازدهرت فيه التجارة على طول «طريق البخور» الشهير في عصور أوج ازدهار الممالك المعينية والقتبانية في جنوب الجزيرة العربية والدادانية واللحيانية في شمال الجزيرة العربية.
3- وقوع المدينة في قلب نجد وسط الجزيرة العربية على طريق البخور الذي يربط جنوب الجزيرة العربية بشمالها وبالعراق والشام ومصر.
4- سيطرة الملك «يدع أب غيلان» خلال تلك الفترة على جميع طرق التجارة في الجزيرة العربية من اليمن إلى العراق والشام.
5- اكتشاف نقش قديم يرد فيه بناء الملك «يدع أب غيلان» لمدينة أخرى في مملكة قتبان تحمل نفس الاسم «ذو غيلان» قبل نحو (2200) عام.
6- ملاحظة أن أحد الفروع الرئيسة لطريق الحرير يمر بالمدن التالية:
مأرب، وادي الدواسر، عودة سدير، القصيم؛ ولذلك الخط دلالات فيما يتعلق ببعض الهجرات القبلية لعشائر وأسر تعود لأصول دوسرية أزدية خرجت من مأرب إلى السراة ثم إلى وادي الدواسر ثم إلى وسط نجد.
جميع تلك الحقائق والشواهد والدلائل والاعتبارات والملاحظات لا يمكن إهمالها وليس لها بديل أكثر منطقية وإقناعاً. وهي استنتاجات أرى أنها أقرب للواقع من استنتاجات بعض المؤرخين وروايات العامة التي تزعم أن الذي شيد تلك القلعة الحصينة ذات المحتويات القيمة هو مجرد بدوي فقير وراعي أغنام بسيط يتنقل بين كثبان صحراء الدهناء..
وشاعر عاش في عهد الدولة الأموية، اسمه غيلان بن عقبة الملقب بـ«ذو الرمة». وهو استنتاج ضعيف يعتمد على توظيف لدلالة الاسم فقط!