د. صيتة بنت فهد الغبين
كل ليلة حينما تغفو العيون، تظل هناك قلوب مستيقظة، كلما غفت باغتها الخوف وأشباح الفقد فتهرع مسرعة لتحتضن ذلك الصغير الغافي على وسادته تضم قلبه وتمسده وبمرارة تمسك ذراعه الصغيرة تتحسس أطرافه وتتأكد أن لا حبات عرق تغزو جبينه، تشم رائحته وترتجف حينما تمسك أصبعه الصغيرة لوخزها، ومع كل قطرة دم يموت قلبها مراراً ولا يعود للحياة إلا حين يعطي مؤشر القياس إشارته إلى أن حلاوة دم صغيرها في المعدل الطبيعي لتحتضنه وتغفو وفي قلبها تصدح كل المآذن وترتفع التراتيل وصلوات يشوبها دعاء واحد (يا رب ارحم قلوب الأمهات)، وفي ليالي يخونها المؤشر فتنطلق يقودها نصف عقل وقلب كامل تذوي فيه الحياة بحثاً عن قطعة سكر تنقذ صغيرها، تحشرها في فمه وهو نائم، تهز جسده لتتأكد أنه ما زال هنا يملأ أيامها المقبلة برنيم ضحكته، لا تتنفس الحياة حتى يبعد يدها عن وجهه وبصوتٍ غافي ينهرها (ماما أريد أن أنام..!)، وهكذا كل ليلة تتوضأ بدموعها وتحمل أوجاعها تنثرها على سجادتها وتنشج بألم (يا رب ارحم قلوب الأمهات..).
ما كتب أعلاه لن يمثل جزءاً بسيطاً مما تمر به أمهات الأطفال المصابين بالسكر، معاناة لا يمكن أن يتخيلها الشخص العادي، ربما يتخيل الأغلبية وأنا أحدهم سابقاً أن الإصابة بالسكري أمر سهل مجرد الامتناع عن الحلوى، ولكن القضية ليست بهذه السهولة بل هي أمر شائك ومعاناة حقيقية للأهل والطفل بالدرجة الأولى، فأن تكون حياة طفلك مهددة في كل لحظة وأن تفقد الطفولة حلاوتها وتصبح المغريات خطراً وشبحاً يلاحقه وأي محاولة لسرقة لحظات سعادة متمثلة في قطعة حلوى هي نذير بمضعافات أخرى يدفع ثمنها هذا الطفل ووالداه، أن تضاف لمهام الأمومة والأبوة مهمة أخرى وهي المراقبة اليومية لمعاناة صغيرهم مع الإبرة والأدوية والحمية وقائمة المحظورات وأنماط الأغذية المختلفة والبدائل وكميات الوجبات والكاربوهيدرات والعمل المجهد لجعل مستوى سكر طفلهم يقترب من المستوى الطبيعي والتعامل مع نفسية طفلهم ليمكنوه من التعايش مع هذا المرض طول حياته، ليس مهمة سهلة خاصة في غياب أو شبه غياب الدعم المجتمعي لهؤلاء الأهل وأطفالهم.
أن فئة أطفال السكري ومن تجربة شخصية لم تمنح حقها الكامل في العناية والاهتمام من الجهات المختلفة، نعم قد تكون هنالك بعض المبادرات التي لا يمكن إنكارها من قبل وزارة الصحة مؤخراً والتي ظهرت للنور نتيجة للجهود التي بذلها عدد من الأطباء المختصين في هذا المجال دون ذكر أسماء.. ونسأل الله أن تكون في ميزان حسناتهم، حيث قامت الوزارة مؤخراً بتوزيع أجهزة القياس الحساسة والتي تساعد في التقليل من صعوبة القياس المتكرر لمستوى سكر دم الطفل خلال اليوم، وكذلك تفعيل اليوم العالمي للسكر في المدارس والجهات المختلفة، ولكن هذه الجهود وحدها لا تكفي، فالمسألة أكبر من ذلك، وهذه الفئة من أطفالنا تحتاج تكاتف ودعم جهات عديدة ممثلة بوزارة الصحة ووزارة التعليم والتي يقع عليها عبء كبير سوف أتطرق له وكذلك وزارة التجارة.
إن ما تقوم به وزارة الصحة في الفترة الأخيرة لا يمكن تجاهله، ولكن حينما نتحدث عن هذه الفئة فهي لا تقتصر على المناطق الرئيسية والمدن الكبرى التي تضم أكبر المراكز والمدن الطبية الحكومية منها أو الخاصة، ولكن حديثنا ورؤيتنا يجب أن تشمل المناطق الطرفية من بلادنا والتي نسبة الإصابة فيها في تزايد، وحيث إنني قمت مؤخراً بالانضمام لمجموعة تضم عدداً كبيراً من أمهات الأطفال المصابين بالسكر، فقد لمست معاناتهم اليومية وخاصة في غياب المراكز المتخصصة في هذه المناطق، حيث إن بعض الأسر قد تضطر للسفر للمدن الكبيرة المجاورة من أجل متابعة العلاج وخاصة في الفترات التي يتواجد فيها استشاري زائر، غياب الأطباء المتخصصين في هذا المجال في تلك المناطق قد يزيد من نسبة الخطأ الطبي من غير المتخصص وهذا ما حدث مع إحدى الأمهات حيث قام الطبيب كونه غير مختص بتبديل الجرعات بين الأنسولين سريع المفعول والمنظم مما كاد يودي بحياة صغيرها، وغيرها من المواقف التي لا مجال هنا لحصرها، فإنشاء وحدات مركزية مزودة بكادر طبي متخصص في تلك المناطق البعيدة والتوجيه بعمل زيارات دورية للاستشاريين لها والمتابعة المستمرة لتوفير الاحتياجات الطبية من أدوية وأجهزة والتدريب للمثقفين والمثقفات الصحيين بحيث يكونون مؤهلين بشكل أكثر إيجابية في التعامل مع الأطفال وأهاليهم وتقديم الدعم النفسي بصورة صحيحة خالية من التقريع والتأنيب لهم والذي يكون له مردود عكسي عليهم سيساهم بشكل فعال في تخفيف معاناتهم، إضافة لذلك وحيث إن مرض السكر بتقلباته المختلفة ومضاعفاته سيكون ملازماً لهذا الصغير طوال عمره مما قد يجعله عرضة لأي وضع صحي طارئ يتطلب التدخل العاجل فلماذا لا تقوم وزارة الصحة بتوفير خط ساخن لاستقبال اتصالات أهالي الأطفال المصابين بالسكر والرد على استفساراتهم وتوعيتهم حتى وإن كان هذا الخط عبارة عن رد آلي يعطيهم خيارات عديدة للاستفسار أو طلب المساعدة العاجلة. إضافة إلى ذلك ضرورة توفير أعداد أكبر من المضخات الذكية والتي قد تساعد بشكل كبير في ضبط مستوى السكر لدى الأطفال أو على الأقل طرحها في الأسواق بأسعار معقولة.
من جهة أخرى، فإن ما تبذله وزارة التعليم في هذا الجانب لا يحقق تطلعات الأهالي للأسف، فوجود الطفل في المدرسة خلال اليوم المدرسي وغياب الوحدات الصحية بشكلها الحقيقي في المدارس هو هاجس يؤرق كل أسرة لديها طفل مصاب خاصة في المرحلة الابتدائية، فكيف يمكن لمعلم أو معلمة غير مؤهل ليواجه هذه الحالات أن يتعامل مع حالة ارتفاع أو انخفاض (وهذا هو الأخطر) في مستويات السكر والتي قد تنتهي -لا قدر الله- بدخول الصغير في حالة غيبوبة ومضاعفات أخرى، وكيف له أن يحقن طفلاً قبل موعد الوجبة بالأنسولين وهو غير ملم بطريقة وأماكن الحقن المختلفة، ومقدار الجرعة وغيرها من التفاصيل، فكون المشرف على الوحدات الصحية هو معلم تم خفض نصابه التدريسي في مقابل الإشراف عليها هو حتماً إجراء غير فعّال، في حين أن الأجدى هو تزويد هذه الوحدات بممرض والاستفادة من خريجي الكليات الصحية المختلفة أو طلبة الأمتياز بحيث تكون هذه الوحدات تحقق المعايير الطبية المقبوله والمعتمدة من وزارة الصحة.. وفي حال عدم توفر ذلك فإنه كحل مؤقت يجب إلحاق المشرفين ببرامج تدريبيه تؤهلهم للتعامل مع الحالات الصحية المختلفة لطلاب من ضمنها حقن إبر الأنسولين وقياس مستويات السكر في الدم والتعامل مع حالات الانخفاض.
علاوة على ذلك فإن مستوى المقاصف المدرسية وعدم تحقيقها للمعايير الصحية يسبب مشكلة كبيرة يواجهها الأهالي، فيجب أن تضع الوزارة معايير عالية تلزم بها المدارس وخاصة في القطاع الخاص وأن تكون هنالك زيارات تفتيشية دورية للتحقق من التزامها بتلك المعايير ووضع عقوبات لمخالفيها، فصحة أطفالنا يجب أن تكون في أول قائمة اهتمامات الوزارة. إضافة إلى ضرورة التوعية المستمرة للمعلمين والمعلمات في كيفية التعامل مع الظروف الصحية الخاصة للطلاب فقد صدمني ما أرسلته إحدى الأمهات لاستشاري السكري من منع المعلمة لطفلتها المصابة من الذهاب لدورة المياه أثناء الحصة الدراسية! ولا أعلم هل هو جهل من المعلمة أم تدني في مستوى الإنسانية لديها.
أما فيما يتعلق بدور وزارة التجارة، فكما هو معلوم للأغلبية أن مرضى السكر هم أكثر فئة بحاجة إلى أنواع معينة من الأغذية الخالية من السكريات وبدائل غذائية تساعدهم على الاستغناء عن كل ما فيه ضرر لهم، إضافة إلى المنتجات العضوية الخالية من المواد الضارة التي تساهم في رفع مستويات السكر، هذه الأغذية قد تتوفر في مراكز ومحلات معينة لكنها للأسف بأسعار مبالغ فيها مما قد تشكل عبئاً على أغلب الأسر، لذا فإنه يجب أن تلعب وزارة التجارة دوراً فعالاً في الحد من هذا التلاعب في الأسعار واستغلال حاجة المرضى ومراقبة هذه المراكز للتأكد أيضاً من جودة هذه المنتجات، فهؤلاء الصغار ليسوا بحاجة لمشاكل صحية أخرى قد يتسبب بها الغش في المكونات الحقيقية لهذه المنتجات.
نقطة أخيره، ألا يمكن اعتبار الأطفال المصابين بالسكري أطفالاً ذوي احتياجات خاصة ويشملهم الدعم الذي تقدمه وزارة الشئون الاجتماعية والذي يساعد العديد من الأسر في توفير الاحتياجات الخاصة بهذا الصغير بحيث لا يكون مرضه إضافة لكونه عبئاً نفسياً وعبئاً مادياً.
قد أكون أطلت في حديثي، ولكني مثلكم جميعاً يؤذيني أن تسرق الحياة من عيني طفل البريق ومن شفتيه الابتسامة ومن قلبه الأمان ونتركه يواجه كل ذلك وحيداً ونحن قادرين على فعل الكثير له.