د.عبد الرحمن الحبيب
هروب الشركات العالمية من السوق الإيرانية وفسخ تعاقدات بمليارات الدولارات، أغلق تدفق العملات الصعبة وانهارت العملة المحلية.. تلك إحدى نتائج العقوبات الاقتصادية الأمريكية على إيران التي تواجه أسوأ أزمة مالية جعلها تدخل العام الجديد بنصف ميزانيتها السابقة، وسيجبر النظام الإيراني على تحجيم تدخلاته الإقليمية في دعم وكلائه وما يثيرونه من اضطرابات بالمنطقة، فميزانية «الحرس الثوري» تم تقليصها إلى النصف مما أثار غضبهم ليتراكم مع غضب مختلف بالشارع الإيراني، ويُدخل البلد في نفق مظلم لا تُعرف نهايته..
ورغم تكرار المسؤولين الإيرانيين لعدم تأثرهم بالعقوبات الأمريكية إلا أن روحاني اعترف، الأسبوع الماضي، أمام البرلمان الإيراني بحدة تأثيراتها عند مناقشة الميزانية التي طال انتظارها بعد خلاف وجدل، قائلاً: «لا أحد يستطيع إنكار التأثير السلبي للعقوبات على اقتصاد البلاد وعلى نوعية حياة الناس..»؛ وأكد أن ميزانية البلاد تم وضعها «أخذاً بالاعتبار العقوبات الأمريكية..»، وأن الحكومة اتخذت إجراءات صعبة لإنقاذ البلاد، وأن العقوبات أثَّرت عملياً ونفسياً على سوق العملات، التي دهورت العملة المحلية. وهنا، ذكرت صحيفة «كيهان» الإيرانية، إلى أن هذا الانخفاض بالميزانية هو أبلغ تكذيب للحكومة، التي أدعت أن العقوبات لن تؤثّر فيها.
تأثير هذه العقوبات واضح اقتصادياً، لكن ما هي تداعياته الأخرى سياسياً واجتماعياً وعسكرياً؟ كبير الباحثين بالمركز الروسي لدراسات الشرقين الأدنى والأوسط فلاديمير ساجين، وصف الوضع الإيراني بالمعقد؛ فغالبية الإيرانيين غير راضين عن الوضع الاقتصادي، والمظاهرات أسبوعية تقريباً.. يخرج الناس للشوارع لأسباب مختلفة، تتراوح بين عدم دفع مؤسسات ما للأجور لموظفيها وتنتهي بقضايا وطنية جدية. وعلى خلفية ما يجري، وتراجع موقف روحاني وحكومته بشكل ملحوظ - كما يقول ساجين- يستغله معارضوه، ويرفضون سياسته الإصلاحية، وجزء كبير من الحرس الثوري، يقف أيضاً ضده.
الحرس الثوري يشكِّل رأس حربة الهجوم على حكومة روحاني خاصة بعد خفض موازنته للنصف، بينما ترى قياداته أنها أقوى من الحكومة؛ وكانت قد جرت بوقت سابق ملاسنة بين روحاني وسليماني قائد «فيلق القدس» حول ميزانية الحرس الثوري حسب صحيفة «جهان صنعت» الإيرانية. لذا فإن الأزمة الاقتصادية ستجر معها تداعيات سياسية داخل النظام بتوتر العلاقة بين حكومة روحاني والحرس الثوري، وارتباك في صياغة السياسة الخارجية لإيران..
حول هذا الموضوع، جمع منتدى سياسي بمعهد واشنطن خبراء بالسياسة الإيرانية. يقول نادر أوسكوي (مؤلف كتاب «احتدام الوضع: «الحرس الثوري» الإيراني والحروب بالشرق الأوسط»): نظرياً، يمكن لـ»فيلق القدس» العمل باستقلال عن الحكومة، فهو يسيطر على مجموعة أعمال خارج إيران، ويمتلك مخابئ أسلحة بأنحاء الشرق الأوسط، ولديه نفاذ مباشر لأكثر من 50 ألف مقاتل شيعي بالمنطقة. في ذات السياق يقول علي آلفونه (مؤلف كتاب «كشْفْ وجه إيران: كيف يحوّل «الحرس الثوري الإسلامي» الحكم الثيوقراطي إلى ديكتاتورية عسكرية»): في حين يملك «الحرس الثوري» سجلاً حافلاً في التأثير بالمنطقة، فإن الحكومة المدنية لا تملك هذا التاثير. ويَعتبر البعض أن قاسم سليماني شخص يمكنه زعزعة سمعة الحكومة بسبب عدم كفاءتها وفسادها إذا ما ترشح لرئاستها، ولكنه لن يكون سياسياً مؤهلاً. ويتنامى ميل التنظيم لاتخاذ خطوات مستقلة من نواح عديدة، لذلك فإن تقييم أهدافه الإستراتيجية أمر ضروري للتنبؤ برؤية الجهورية الإسلامية للمستقبل.
أما أليكس فاتانكا (مؤلف كتاب «إيران وباكستان: الأمن والدبلوماسية والنفوذ الأمريكي) فيرى أنه من غير الواضح من يملك القرار في السياسة الخارجية لإيران، يقول: بالنظر للتفاوض مع إيران، فإنه سيواجه صعوبات كبيرة؛ فالصراع الداخلي بين الفصائل يثقل كاهل إيران حالياً ويقوّض قدرتها على التحدث بصوت واحد. كما أن «الحرس الثوري» والحكومة لا يوافقان على كيفية المضي قدماً بعد إعادة فرض العقوبات الأمريكية، لذلك فمن غير الواضح من قد يمثّل طهران في أي مفاوضات، وما هي المصالح التي ستُمنح لها الأولوية.
وإذا كان ليس واضحاً لدى بعض الخبراء من هو صاحب القرار الفعلي فإن روح الله فقيه (صحفي إيراني) يذكر بمقال له في مجلة فورين بوليسي أن المستشار الأعلى للزعيم الأعلى، علي أكبر ولايتي، هو الرجل الذي يدير سياسة إيران الخارجية فعليًا. وكانت المجلة قد جمعت أهم المقالات بهذا الخصوص لعام 2018 وإمكانية التفاوض مع إيران وتأثير العقوبات الأمريكية عليها، وفي أحدها ناقش هومان مجد أسباب عدم توقعه أن تدخل إيران مرة أخرى في مفاوضات مع إدارة ترامب.. أما تأثير العقوبات فيرى ميشائيل تانشوم أن إدارة ترامب لا تحتاج إلى بقية العالم لدعم العقوبات المفروضة عليها لتغيير سلوك إيران وقد تكون إجراءات واشنطن أحادية الجانب كافية لردع الاستثمارات التي تحتاجها إيران للبقاء اقتصاديًا.
الخلاصة أن العقوبات الأمريكية تؤثِّر وبقوة في الداخل الإيراني، والأمور ستزداد سوءاً للحد الذي قد يصل إلى مقدمات اجتماعية وسياسية لتغيير النظام ما لم يقبل بالمطالب الأمريكية أو على الأقل بالتفاوض مع الإدارة الأمريكية، لكن المشكلة أنه لا توجد جهة بإيران، أو لم تظهر بعد، قادرة على اتخاذ القرار بإدارة سياستها الخارجية، فالنظام الإيراني يبدو مرتبكاً أو متصارعاً بين خيارات عدة..